الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 400 ] فصل

ينبغي للمغتسل الغسل الواجب والمستحب وغيرهما التستر ما أمكنه ؛ لأن الله حيي ستير يحب الحياء والستر ، ثم لا يخلو إما أن يكون بحضرته أحد من الآدميين أو لا ، فإن كان هناك أحد وجب عليه أن يستر عورته منه ؛ لقوله سبحانه : ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ) وروى بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري ، عن أبيه ، عن جده قال : قلت : يا رسول الله ، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال : " احفظ عورتك إلا من زوجتك وما ملكت يمينك " قلت : فإذا كان القوم بعضهم في بعض قال : " إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها " قلت : فإذا كان القوم أحدنا خاليا قال : " فالله تبارك وتعالى أحق أن يستحيا منه " رواه الخمسة إلا النسائي .

وذكره البخاري تعليقا ، وهذا يعم حفظها من النظر والمس فقال : " لا تبرز فخذك ، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت " وقال : " لا تمشوا عراة " [ ص: 401 ] رواه مسلم .

وقد تقدم حديث اللذين يضربان الغائط . ونهى عن دخول الحمام إلا بالأزر ، وإن لم يكن بحضرته أحد فينبغي أن يستتر بسقف أو حائط أو دابة أو غير ذلك ، وأن يأتزر كما أن يستتر عند الخلاء والجماع ، وأن لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض وأوكد ؛ لأن الله أحق أن يستحي منه الناس ، فيأتي من الستر بقدر ما يمكنه ، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم " أنه كان يستتر عند الغسل " .

وقال أبو موسى الأشعري : " إني لأغتسل في البيت المظلم فأحني ظهري حياء من ربي عز وجل " رواه إبراهيم الحربي . فإن اغتسل في فضاء ولا إزار عليه كره له ذلك ، لما روى يعلى بن أمية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا يغتسل بالبراز فقال : " إن الله حيي ستير يحب الحياء والستر ، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر " رواه أبو داود والنسائي .

وعن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله ينهاكم عن التعري فاستحيوا من الملائكة الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند [ ص: 402 ] الغائط والجنابة والغسل ، فإذا اغتسل أحدكم بالعراء فليستتر بثوبه أو بجذم حائط " رواه إبراهيم الحربي . ورواه ابن بطة من حديث ابن عمر ، وقد صح ذلك من مراسيل مجاهد ، وقيل : لا يكره كما لو استتر بحائط أو سقف ونحوه ، فإنه يجوز أن يتجرد ؛ لأن به حاجة إلى ذلك ، فأشبه حال الجماع والتخلي . وذكر القاضي في كراهة كشف العورة للاغتسال في الخلوة روايتين ، وإنما لم يكره له التجرد مع الاستتار ؛ لأن في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن موسى عليه السلام اغتسل عريانا " وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن أيوب عليه السلام اغتسل عريانا " ولما تقدم من الأحاديث ؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تجرد لأهله واغتسل ، وكان يستر بالثوب ويغتسل ، وحديث بهز [ ص: 403 ] في قوله : " فالله أحق أن يستحي منه " ( فإذا ) لم يكن حاجة كالغسل والخلاء وغير ذلك ، فإنه ينهى عن كشف السوءة لغير حاجة ، وقيل : هو على طريق الاستحباب ، فإنه يستحب له الاتزار في حال الغسل وغيره ، وعلى هذا فلا يكره دخول الماء بغير ميزر لكن يحب الاتزار ، لما روى أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن موسى - عليه السلام - كان إذا أراد أن يدخل الماء لم يلق ثوبه حتى يواري عورته في الماء " رواه أحمد . ولأنه كشف للاغتسال حيث لا يراه آدمي ، فجاز كما لو لم يكن في الماء ، وعنه أنه يكره ، وعلى هذا أكثر نصوصه وكرهه كراهة شديدة ، وإنما رخص فيه لمن لا إزار معه ؛ لما روي عن جابر قال : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدخل الماء إلا بمئزر " رواه أبو حفص العكبري ، وروى أيضا عن أبي محمد الأنصاري قال : " خرجت إلى شاطئ الفرات ، فرأيت بغالا ، فقلت لرجل : لمن هذه البغال ؟ فقال : للحسن والحسين وعبد الله بن جعفر . قلت : وأين هم ؟ قال : في الفرات يتغاطون ، قال : فأتيتهم فرأيتهم في سراويلات ، فقلت للحسن : يا ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تغاطون في الماء وعليكم سراويلات ؟ فقال : نعم ، أما علمت أن للماء سكانا ، وأن أحق من استتر من سكان الماء لنحن " .

وذكر إسحاق بن راهويه أن الحسن والحسين قيل لهما وقد دخلا الماء وعليهما بردان فقالا : " إن للماء سكانا " واحتج به إسحاق وأحمد بمعناه ؛ ولأنه كشف للعورة بحضرة من يراه من الخلق ، فأشبه ما لو كشفها بحضرة [ ص: 404 ] آدمي ؛ ولذلك كرهنا له التكشف في الخلوة إلا بقدر الحاجة وهو مستغن عن كشفها في الماء ؛ لأن الماء يصل إلى الأرفاغ ونحوها من غير تكشف ، وحديث موسى شرع من قبلنا ، وكان التستر في شرعهم أخف ، ولم يكن محرما عليهم النظر إلى العورة بدليل أنهم كانوا يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى عورة بعض ، وإنما كان موسى يجتنب ذلك حياء ، والتكشف في الماء أهون منه بين الناس ، فما كان مكروها فيهم صار محرما فينا وما كان مباحا صار مكروها ، أو يحمل حديث موسى على كشفها في الماء لحاجة ، والحديث الآخر إذا لم يحتج إلى كشفها كما في كشفها خارج الماء ، ويكون مقصود الحديث بيان أن الماء ليس بساتر ؛ لأن فيه سكانا .

التالي السابق


الخدمات العلمية