الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ) أي : وتالله لئن جئتهم بكل آية على نبوتك وكل حجة على صدقك ما تبعوا قبلتك فضلا عن ملتك ، فلا يحزنك قولهم ولا إعراضهم ولا تحسبن الآيات والدلائل مقنعة أو صارفة لهم عن عنادهم ، فهم قوم مقلدون لا نظر لهم ولا استدلال . وكما أيأسه من اتباعهم قبلته أيأسهم من اتباعه قبلتهم ، فقال : ( وما أنت بتابع قبلتهم ) فإنك الآن على قبلة إبراهيم الذي يجلونه جميعا ، ولا يختلف في حقية ملته أحد منهم ، فهي الأجدر بالاجتماع عليها ، وترك الخلاف إليها ، فإذا كان أتباع إبراهيم لا يزحزحهم عن تعصبهم لما ألفوا ، وعنادهم فيما اختلفوا ، وإذا كان التقليد يحول بينهم وبين النظر في حقيقة معنى القبلة ، وكون الجهات كلها لله تعالى ، وأن الفائدة فيها الاجتماع دون الافتراق فأي دليل أم أية آية ترجعهم عن قبلتهم ؟ وأية فائدة ترجى من موافقتك إياهم عليها ؟ ألم تر كيف اختلفوا هم في القبلة فجعل النصارى لهم قبلة غير قبلة اليهود التي كان عليها عيسى بعد موسى ؟ ! ( وما بعضهم بتابع قبلة بعض ) لأن كلا منهم قد جمد بالتقليد على ما هو عليه ، والمقلد لا ينظر في آية ولا دليل ، ولا في فائدة ما هو فيه ، والمقارنة بينه وبين غيره فهو أعمى لا يبصر ، أصم لا يسمع ، أغلف القلب لا يعقل ( ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين ) أي : ولئن فرض أن تتبع ما يهوونه من الصلاة إلى قبلتهم أو غير ذلك اجتهادا منك تقصد به استمالتهم إلى دينك ، من بعد ما جاءك الحق اليقين بالنص المانع من الاجتهاد ، والعلم الذي لا مجال معه للظن ، إنك إذ تفعل هذا فرضا - وما أنت بفاعله - تكون من جماعة الظالمين ( وحاشاك ) والكلام من باب ( إياك أعني واسمعي يا جارة ) وبيانه أننا قد أقمنا لك مسألة القبلة على قاعدة العلم الذي عرفت به أن نسبة الجهات إلى الله تعالى واحدة ، وأن جمود أهل الكتاب على ما هم فيه إنما جاءهم من التقليد وحرمان أنفسهم من النظر ، وأن طعنهم فيك وفيما جئت به من أمر القبلة وغيره ليس إلا جحودا ومعاندة لك مع علمهم بأنك النبي الموعود به في كتبهم يأتي من ولد إسماعيل . فبعد هذا العلم كله لا ينبغي لأحد [ ص: 16 ] من أتباعك المؤمنين أن يفكر في أهواء القوم استمالة لهم ; إذ لا محل لهذه الاستمالة ، والحق قوي بذاته ، وغني بمن ثبت عليه ، ومن عدل عنه - مجاراة لأهل الأهواء لما يرجو من فائدتهم أو اتقاء مضرتهم - فهو ظالم لنفسه ، وظالم لمن يسلك بهم هذا السبيل الجائر .

                          ( الأستاذ الإمام ) هذا الخطاب بهذا الوعيد لأعلى الناس مقاما عند الله تعالى هو أشد وعيد لغيره ممن يتبع الهوى ، ويحاول استرضاء الناس بمجاراتهم على ما هم عليه من الباطل ; فإنه أفرده بالخطاب مع أن المراد به أمته ; إذ يستحيل أن يتبع هو أهواءهم ، أو أن يجاريهم على شيء نهاه الله تعالى عنه ، ليتنبه الغافل ويعلم المؤمنون أن اتباع أهواء الناس ولو لغرض صحيح هو من الظلم العظيم الذي يقطع طريق الحق ، ويردي الناس في مهاوي الباطل ، كأنه يقول : إن هذا ذنب عظيم لا يتسامح فيه مع أحد ، حتى لو فرض وقوعه من أكرم الناس على الله تعالى لسجل عليه الظلم ، وجعله من أهله الذين صار وصفا لازما لهم ( وما للظالمين من أنصار ) ( 2 : 270 ) فكيف حال من ليس له ما يقارب مكانته عند ربه عز وجل ؟ .

                          نقرأ هذا التشديد والوعيد ، ونسمعه من القارئين ، ولا نزدجر عن اتباع أهواء الناس ومجاراتهم على بدعهم وضلالاتهم ، حتى إنك ترى الذين يشكون من هذه البدع والأهواء ويعترفون ببعدها عن الدين يجارون أهلها عليها ويمازجونهم فيها ، وإذا قيل لهم في ذلك قالوا : ( ( ماذا نعمل ؟ ما في اليد حيلة ) ) ( ( العامة عمى ) ) 0 ( ( آخر زمان ) ) وأمثال هذه الكلمات هي جيوش الباطل تؤيده وتمكنه في الأرض ، حتى يحل بأهله البلاء ويكونوا من الهالكين .

                          وأعجب من هذا الذي ذكره الإمام أنك ترى هؤلاء المعترفين بهذه البدع والأهواء ينكرون على منكرها ، ويسفهون رأيه ويعدونه عابثا أو مجنونا ، إذ يحاول ما لا فائدة فيه عندهم ، فهم يعرفون المنكر وينكرون المعروف ، ويدعون مع ذلك أنهم على شيء من العلم والدين .

                          وأعجب من هذا الأعجب أن منهم من يرى أن إزالة هذه المنكرات والبدع ، ومقاومة هذه الأهواء والفتن جناية على الدين ، ويحتج على هذا بأن العامة تحسبها من الدين ، فإذا أنكرها العلماء عليهم تزول ثقتهم بالدين كله لا بها خاصة ! ! وبأنها لا تخلو من خير يقارنها كالذكر الذي يكون في المواسم والاحتفالات التي تسمى بالموالد وكلها بدع ومنكرات ، حتى إن الذكر الذي يكون فيها ليس من المعروف في الشرع ! ! والسبب الصحيح في هذا كله هو محاولة إرضاء الناس بمجاراتهم على أهوائهم وتأويلها لهم ، ولولا ذلك لما سكت العالمون بكونها بدعا ومنكرات عليها ، إنهم سكتوا بالثمن ( اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ) ( 9 : 9 ) وهم مع ذلك يظهرون التعجب من جحود أهل الكتاب للنبي والقرآن ، وما كانوا أشد منهم جحودا ، ولا أقوى جمودا .

                          هذا إيماء إلى اتباع العلماء أهواء العامة بعد ما جاءهم من العلم وما نزل عليهم في الكتاب من الوعيد عليه ، ولو شرح شارح اتباعهم لأهواء السلاطين والأمراء والوجهاء والأغنياء ، [ ص: 17 ] وكيف يفتونهم ويؤلفون الكتب لهم ، ويخترعون الأحكام والحيل الشرعية لأجلهم ، وكيف حرموا على الأمة العمل بالكتاب والسنة وألزموها كتبهم ; لظهر لقارئ الشرح كيف أضاع هؤلاء الناس دينهم ، فسلط الله عليهم من لم يكن له عليهم سبيل ، ولبان له وجه التشديد في الآية بتوجيه الوعيد فيها إلى النبي المعصوم المشهود له بالخلق العظيم ، فلا يكبرن عليك أن تحكم على من يسمون أنفسهم أو يسميهم الحكام كبار العلماء بأنهم من الظالمين ، إذا اتبعوا أهواء العامة أو شهوات الأمراء والسلاطين .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية