الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      تنبيهان الأول : [ قيود لا بد منها في الإجماع السكوتي ] لهذه المسألة قيود . الأول : أن يكون في مسائل التكليف ، فقول القائل : عمار أفضل من حذيفة ، لا يدل السكوت فيه على شيء إذ لا تكليف على الناس فيه . قاله ابن الصباغ في العدة " ، وابن السمعاني في القواطع " وأبو الحسين في المعتمد " ، وغيرهم . القيد الثاني : أن يعلم أنه بلغ جميع أهل العصر ، ولم ينكروا ، وإلا فلا يكون إجماعا سكوتيا . قاله الصيرفي وغيره ، ووراءه حالتان . إحداهما : أن يغلب على الظن بلوغهم . فقال الأستاذ أبو إسحاق : هو إجماع على مذهب الشافعي ، واختاره وجعله درجة دون الأول . والثاني : أن يحتمل بلوغه وعدمه ، فالأكثرون على أنه ليس بحجة . قالالطبري : ولهذا لم يستقم للحنفية الاحتجاج في وطء الثيب ، هل يمنع الرد بالعيب ؟ وقيل : حجة مطلقا ، وهو ظاهر كلام القاضي عبد الوهاب ، وحكاه عن مالك ، وفصل الرازي ، والبيضاوي ، والهندي بين أن يكون هذا القول مما تعم به البلوى ، كنقض الوضوء من مس الذكر ، كان كالسكوتي ، وإلا لم يكن حجة . [ ص: 471 ] وإذا قلنا : هو حجة ، فليس بالإجماع في قول الجمهور ، وقيل : إجماع لئلا يخلو العصر عن قائم بالحق .

                                                      وقال القاضي الحسين في تعليقه " : إذا قال الصحابي قولا ، ولم ينتشر فيما بينهم ، فإن كان معه قياس خفي ، قدم على القياس الجلي قولا واحدا ، وكذلك إذا كان معه خبر مرسل ، فإن كان متجردا عن القياس ، فهل يقدم القياس الجلي عليه ؟ فيه قولان : الجديد يقدم القياس ، وقال الروياني في البحر " : هذا إذا بلغ كل الصحابة ، فإن لم ينتشر في كلهم ، ولم ير فيه خلافا لمن بعدهم فليس بإجماع . وهل يكون حجة يعتبر بما يوافقه من قياس أو يخالف ؟ ففيه أربعة أحوال . أحدها : أن يكون القياس موافقا ، ثم يكون قوله حجة بالقياس . وثانيها : أن يكون مخالفا القياس الجلي ، فالقياس أولى . وثالثها : أن يكون معه قياس جلي ، ويخالفه قياس خفي ، فقوله مع القياس أولى . ورابعها : أن يكون مع قوله قياس خفي ، ويخالفه قياس جلي . قال في القديم : قوله مع القياس الخفي أولى وألزم من القياس الجلي ، وقال في الجديد : القياس الجلي أولى بالعمل من قوله مع القياس الخفي .

                                                      وقال الرافعي : هذا إذا نقل السكوت ، فإن لم ينقل قول ولا سكوت ، فيجوز أن لا يلحق بهذا ، ويجوز أن يستدل به على السكوت ; لأنه لو قال شيئا لنقل كما نقل اختلافهم في مسائل الاختلاف . وقال في باب الفرائض : إنه يترك للقول المنتشر - والحالة هذه - القياس الجلي ، ويعتضد به الخفي ، وقال النووي : المختار أن عدم النقل ، كنقل السكوت ; لأنه الأصل والظاهر . القيد الثالث : كون المسألة مجردة عن الرضى والكراهة . فإن ظهر عليهم الرضا بما ذهبوا إليه فهو إجماع بلا خلاف . قاله القاضيان الروياني [ ص: 472 ] في البحر " وعبد الوهاب من المالكية ، والخوارزمي في الكافي " ، وجرى عليه الرافعي .

                                                      وقضيته أنه إن ظهرت أمارات السخط لم يكن إجماعا قطعا ، وكلامهم صريح في جريان الخلاف فيه . أما إذا استصحب فعل يوافق الفتوى فالأمة حينئذ منقسمة إلى قائل وعامل وذلك إجماع فلا نزاع . ذكره القاضي عبد الوهاب في الملخص " . القيد الرابع : مضى زمن يسع قدر مهلة النظر عادة في تلك المسألة ، فلو احتمل أن الساكتين كانوا في مهلة النظر لم يكن إجماعا سكوتيا ، ذكره الدبوسي وغيره . القيد الخامس : أن لا يتكرر ذلك مع طول الزمان ، فإن تكررت الفتيا ، وطالت المدة مع عدم المخالفة ، فإن ظن مخالفتهم يترجح ، بل يقطع بها ، ذكره إمام الحرمين وإلكيا . قال : وقول الشافعي : لا ينسب إلى ساكت قول ، أراد به ما إذا كان السكوت في المجلس ، ولا يتصور السكوت إلا كذلك ، وفي غيره لا سكوت على الحقيقة . وصرح بذلك أيضا التلمساني في شرح المعالم " ، وأنه ليس من محل الخلاف ، بل هو إجماع وحجة عند الشافعي رحمه الله قال : ولهذا استدل على إثبات القياس وخبر الآحاد بذلك لكونه في وقائع . وتوهم الإمام في المعالم " أن ذلك تناقض من الشافعي .

                                                      وليس كذلك ، ولذلك جعل إمام الحرمين صورة المسألة ما إذا لم يطل الزمان مع تكرر الوقائع ، فإن تكررت مع الطول فقضية كلام القاضي جريان الخلاف فيه . القيد السادس : أن يكون قبل استقرار المذاهب . فأما بعد استقرارها فلا أثر للسكوت قطعا ، كإفتاء مقلد سكت عنه المخالفون للعلم بمذهبهم [ ص: 473 ] ومذهبه ، كشافعي يفتي بنقض الوضوء بمس الذكر ، فلا يدل سكوت الحنفي عنه على موافقته للعلم باستقرار المذاهب ، ذكره إلكيا الطبري وغيره . التنبيه الثاني أن لهم في تصوير المسألة طريقين إحداهما : جعل ذلك عاما في حق كل عصر من المجتهدين وهو الذي صرح به الحنفية في كتبهم ، وإمام الحرمين في البرهان " ، والشيخ في شرح اللمع " ، والرازي في كتبه وسائر أصحابه ، والآمدي ، وابن الحاجب ، والقرافي من المالكية وغيرهم . وقال النووي في شرح الوسيط " : إذا انتشر قول التابعي ، ولم يخالف ، فالصحيح أنه كالصحابي . وقيل : ليس بحجة قطعا . قال صاحب الشامل " : الصحيح أنه إجماع . هذا هو الذي صححه ، وهو الأظهر ; لأن المعنى المعتبر في الصحابة موجود فيهم ، فإن لم ينتشر قول التابعي ، فليس بحجة بلا خلاف . انتهى .

                                                      الثانية : قول من خص هذه المسألة ببعض الصحابة دون من بعدهم ، وهي طريقة القدماء من أصحابنا وغيرهم ، منهم الشيخ أبو حامد الإسفراييني في تعليقه " ، والماوردي في الحاوي " ، والصيرفي وابن القطان في كتابيهما في أصول الفقه ، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي ، وابن الصباغ في العدة " وإلكيا ، والغزالي في المستصفى " والمنخول " وابن برهان ، [ ص: 474 ] والخوارزمي في الكافي " ، وأبو الحسين في المعتمد " ، والقاضي عبد الوهاب من المالكية ، واختاره القرطبي من متأخريهم ، والموفق الحنبلي في الروضة " ، وابن السمعاني ، ثم قال في أثناء المسألة : وخصصها بعض أصحابنا بعصر الصحابة ، وأما التابعون ومن بعدهم ، فلا . قال : ولا يعرف فرق بين الموضعين ، والأولى التسوية بين الجميع . وأما صاحب المحصول " ، فأطلق المسألة ، ثم لما انتهى إلى فروع انتشار القول واحتمال بلوغه للباقين خصه بالصحابة . وتوهم البيضاوي ، والهندي أن هذا القيد لا يحتاج إليه ، وأن الفرع غير مختص بالصحابة ، ويدل عليه نقل ابن السمعاني ، والمعنى فيه أن السكوت دليل الرضا ، فانتهض في الإجماع . والثانية : وهي هذا الفرع يختص بهم ; لأن قول البعض ليس بحجة على قول البعض ، فلا وجه لهذا القول إلا إذا كان القائل صحابيا ، فيقع الخلاف ناشئا عن أقوال الصحابة ، هل هي حجة ؟ ولذلك أشار القاضي ، والشيخ أبو إسحاق ، وغيرهما ، إلى أن هذا الفرع هو نفس الكلام في أن قول الصحابي هل هو حجة أم لا ؟ وأجروا الكلام فيه إلى موضعه . والحاصل أنه إن عرف بلوغه الجميع فمسألة السكوتي ، وإن ظن ففيها خلاف مفرع على مسألة السكوتي ، كما قاله الأستاذ ، وإن كان محتملا فهي هذه المسألة ، ولا وجه للقول بالحجية فيها إلا إن كان من صحابي ، بناء على أن قوله حجة ، ومن عمم القول فيها لم يصب ، وإن لم يكن محتملا أصلا فلا وجه . [ ص: 475 ] وقيل بل تخصيص المسألة بعصر الصحابة كما فعله الأقدمون أظهر من الطريقة الأولى ; وذلك لأن من قال : يكون حجة لا إجماعا ، إنما يتوجه فرضه في حق الصحابة ; لأن منصبهم لا يقتضي السكوت عن مثل ذلك مع مخالفتهم فيه ، وهذا لا يجيء في حق غيرهم .

                                                      كيف والتعلق هنا إنما هو بقول المفتي والحاكم فقط ; لأنه مبني على أن الساكت لا ينسب إليه قول ، كما نقله الإمام عن الشافعي . ولا حجة في قول أحد من المجتهدين بعد الصحابة بالاتفاق . فإذا لم يكن إجماعا فكيف يكون حجة بخلاف ما إذا كان ذلك قول صحابي ، فإن ذلك إذا لم يكن سكوتهم عن مثله إجماعا فيصلح للاحتجاج .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية