الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        6375 حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حدثنا سفيان ) هو الثوري .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن عبد الله بن دينار ) هكذا قال الحفاظ من أصحاب سفيان الثوري عنه ، منهم عبد الرحمن بن مهدي ، ووكيع وعبد الله بن نمير وغيرهم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن ابن عمر ) في رواية الإسماعيلي من طريق أحمد بن سنان ، عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن شعبة وسفيان ، عن ابن دينار : " سمعت ابن عمر " ، وقد اشتهر هذا الحديث عن عبد الله بن دينار حتى قال مسلم لما أخرجه في صحيحه : الناس في هذا الحديث عيال عليه ، وقال الترمذي بعد تخريجه : حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن دينار رواه عنه سعيد وسفيان ومالك ، ويروى عن شعبة أنه قال : وددت أن عبد الله بن دينار لما حدث بهذا الحديث أذن لي حتى كنت أقوم إليه فأقبل رأسه .

                                                                                                                                                                                                        قال الترمذي : وروى يحيى بن سليم عن عبيد الله بن عمر عن عبد الله بن دينار .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وصل رواية يحيى بن سليم ابن ماجه ، ولم ينفرد به يحيى بن سليم ؛ فقد تابعه أبو ضمرة أنس بن عياض ويحيى بن سعيد الأموي كلاهما عن عبيد الله بن عمر ، أخرجه أبو عوانة في صحيحه من طريقهما ، لكن قرن كل منهما نافعا بعبد الله بن دينار ، وأخرجه ابن حبان في الثقات في ترجمة أحمد بن أبي أوفى وساقه من طريقه عن شعبة عن عبد الله بن دينار وعمرو بن دينار جميعا عن ابن عمر ، وقال عمرو بن دينار : غريب ، وقد اعتنى أبو نعيم الأصبهاني بجمع طرقه عن عبد الله بن دينار فأورده عن خمسة وثلاثين نفسا ممن حدث به عن عبد الله بن دينار منهم من الأكابر يحيى بن سعيد الأنصاري ، وموسى بن عقبة ، ويزيد بن الهاد ، وعبيد الله العمري ، وهؤلاء من صغار التابعين وممن دونهم مسعر والحسن بن صالح بن حي وورقاء ، وأيوب بن موسى ، وعبد الرحمن بن عبد [ ص: 45 ] الله بن دينار ، وعبد العزيز بن مسلم وأبو أويس ، وممن لم يقع له ابن جريج وهو عند أبي عوانة وسليمان بن بلال ، وهو عند مسلم وأحمد بن حازم المغافري في جزء الهروي من طريق الطبراني .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن ابن عمر ) في رواية أبي داود الحفري عن سفيان عند الإسماعيلي : " سمعت ابن عمر " ، وكذا مضى في العتق من رواية شعبة ، وفي مسند الطيالسي عن شعبة : " قلت لعبد الله بن دينار أنت سمعت هذا من ابن عمر؟ قال : نعم ، سأله ابنه عنه " ، وذكره أبو عوانة عن بهز بن أسد عن شعبة : " قلت لابن دينار أنت سمعته من ابن عمر؟ قال : نعم وسأله ابنه حمزة عنه ، وكذا وقع في رواية عفان عن شعبة عند أبي نعيم ، وأخرجه من وجه آخر أن شعبة قال : " قلت لابن دينار : آلله لقد سمعت ابن عمر يقول هذا؟ فيحلف له " .

                                                                                                                                                                                                        وقيل لابن عيينة : إن شعبة يستحلف عبد الله بن دينار ، قال : لكنا لم نستحلفه سمعته منه مرارا رويناه في مسند الحميدي عن سفيان ، وأخرجه الدارقطني في " غرائب مالك " من طريق الحسن بن زياد اللؤلؤي ، عن مالك ، عن ابن دينار ، عن حمزة بن عبد الله بن عمر أنه سأل أباه عن شراء الولاء فذكر الحديث ، فهذا ظاهره أن ابن دينار لم يسمعه من ابن عمر وليس كذلك .

                                                                                                                                                                                                        وقال ابن العربي في " شرح الترمذي " : تفرد بهذا الحديث عبد الله بن دينار ، وهو من الدرجة الثانية من الخبر ؛ لأنه لم يذكر لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - وكأنه نقل معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : إنما الولاء لمن أعتق قلت : ويؤيده أن ابن عمر روى هذا الحديث عن عائشة في قصة بريرة كما مضى في العتق ، لكن جاءت عنه صيغة الحديث من وجه آخر أخرجه النسائي وأبو عوانة من طريق الليث عن يحيى بن أيوب عن مالك ولفظه سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن بيع الولاء وعن هبته .

                                                                                                                                                                                                        ووقع في رواية محمد بن أبي سليمان التي أشرت إليها بلفظ : " الولاء لا يباع ولا يوهب " ، وفي رواية عتبان بن عبيد عن شعبة مثله ، ذكره أبو نعيم ، وزاد محمد بن سليمان الخراز في السند عن ابن عمر " عن عمر " فوهم ، أخرجه الدارقطني أيضا وضعفه ، واتفق جميع من ذكرنا على هذا اللفظ وخالفهم أبو يوسف القاضي فرواه عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر بلفظ الولاء لحمة كلحمة النسب أخرجه الشافعي ، ومن طريقه الحاكم ثم البيهقي ، وأدخل بشر بن الوليد بين أبي يوسف وبين ابن دينار عبيد الله بن عمر أخرجه أبو يعلى في مسنده عنه ، وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن أبي يعلى ، وأخرجه أبو نعيم من طريق عبد الله بن جعفر بن أعين عن بشر فزاد في المتن : " لا يباع ولا يوهب " .

                                                                                                                                                                                                        ومن طريق عبد الله بن نافع عن عبد الله بن دينار : " إنما الولاء نسب لا يصح بيعه ولا هبته " ، والمحفوظ في هذا ما أخرجه عبد الرزاق عن الثوري عن داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب موقوفا عليه : " الولاء لحمة كلحمة النسب " ، وكذا ما أخرجه البزار والطبراني من طريق سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده رفعه : " الولاء ليس بمنتقل ولا متحول " ، وفي سنده المغيرة بن جميل وهو مجهول ، نعم عن ابن عباس من قوله الولاء لمن أعتق لا يجوز بيعه ولا هبته .

                                                                                                                                                                                                        وقال ابن بطال : أجمع العلماء على أنه لا يجوز تحويل النسب ، فإذا كان حكم الولاء حكم النسب ، فكما لا ينتقل النسب لا ينتقل الولاء ، وكانوا في الجاهلية ينقلون الولاء بالبيع وغيره فنهى الشرع عن ذلك ، وقال ابن عبد البر : اتفق الجماعة على العمل بهذا الحديث إلا ما روي عن ميمونة أنها وهبت ولاء سليمان بن يسار لابن عباس ، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء : يجوز للسيد أن يأذن لعبده أن يوالي من شاء .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وقد تقدم البحث فيه في الباب الذي قبله . وقال ابن بطال وغيره : جاء عن عثمان جواز بيع الولاء وكذا عن عروة ، وجاء عن ميمونة جواز هبة الولاء وكذا عن ابن عباس ولعلهم لم يبلغهم الحديث ، قلت : قد أنكر ذلك ابن مسعود في زمن عثمان [ ص: 46 ] فأخرج عبد الرزاق عنه أنه كان يقول : أيبيع أحدكم نسبه؟ ومن طريق علي : الولاء شعبة من النسب ، ومن طريق جابر أنه أنكر بيع الولاء وهبته ، ومن طريق عطاء أن ابن عمر كان ينكره ، ومن طريق عطاء عن ابن عباس : لا يجوز ، وسنده صحيح ، ومن ثم فصلوا في النقل عن ابن عباس بين البيع والهبة .

                                                                                                                                                                                                        وقال ابن العربي : معنى الولاء لحمة كلحمة النسب أن الله أخرجه بالحرمة إلى النسب حكما كما أن الأب أخرجه بالنطفة إلى الوجود حسا ؛ لأن العبد كان كالمعدوم في حق الأحكام لا يقضي ولا يلي ولا يشهد ، فأخرجه سيده بالحرية إلى وجود هذه الأحكام من عدمها ، فلما شابه حكم النسب أنيط بالمعتق فلذلك جاء : إنما الولاء لمن أعتق وألحق برتبة النسب فنهي عن بيعه وهبته .

                                                                                                                                                                                                        وقال القرطبي : استدل للجمهور بحديث الباب ، ووجه الدلالة أنه أمر وجودي لا يتأتى الانفكاك عنه كالنسب ، فكما لا تنتقل الأبوة والجدودة فكذلك لا ينتقل الولاء ، إلا أنه يصح في الولاء جرما يترتب عليه من الميراث كما لو تزوج عبد معتقة آخر فولد له منها ولد فإنه ينعقد حرا لحرية أمه فيكون ولاؤه لمواليها لو مات في تلك الحالة ، ولو أعتق السيد أباه قبل موت الولد فإن ولاءه ينتقل إذا مات لمعتق أبيه اتفاقا انتهى .

                                                                                                                                                                                                        وهذا لا يقدح في الأصل المذكور أن الولاء لحمة كلحمة النسب لأن التشبيه لا يستلزم التسوية من كل وجه ، واختلف فيمن اشترى نفسه من سيده كالمكاتب فالجمهور على أن ولاءه لسيده وقيل لا ولاء عليه ، وفي ولاء من أعتق سائبة وقد تقدم قريبا .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية