الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ( وما كثر جمعه ) من المساجد ( أفضل ) مما قل جمعه منها ، وكذا [ ص: 142 ] ما كثر جمعه من البيوت أفضل مما قل جمعه منها للخبر المار . نعم الجماعة في المساجد الثلاثة ، وإن قلت أفضل من غيرها ، وإن كثرت ، بل قال المتولي : إن الانفراد فيها أفضل من الجماعة في غيرها وهو الأوجه وما قاله الأذرعي من كون القاعدة السابقة تنازع فيه يمكن الجواب عنه بأنها أغلبية ، على أن المساجد الثلاثة اختصت بخصائص دون سائر المساجد فلا يقاس عليها .

                                                                                                                            وأفتى الغزالي بأنه إذا كان لو صلى منفردا خشع : أي في جميع صلاته ، ولو صلى في جماعة لم يخشع فالانفراد أفضل ، وتبعه ابن عبد السلام . قال الزركشي تبعا للأذرعي : والمختار بل الصواب خلاف ما قالاه ، وهو كذلك لما مر من الخلاف في أن الجماعة فرض عين ، وهو أقوى من الخلاف في كون الخشوع شرطا فيها ، ومن ثم كان الراجح أنها فرض كفاية ، وأنه سنة ( إلا لبدعة إمامه ) التي لا يكفر بها كمعتزلي ورافضي وقدري ومثله الفاسق كما في المجموع والمتهم بذلك كما في الأنوار وكل من يكره الاقتداء به كما في التوسط والخادم ، أو لكون الإمام لا يعتقد وجوب بعض الأركان أو الشروط كحنفي أو غيره ، وإن أتى بها لقصده بها النفلية وهو مبطل عندنا ولهذا منع من الاقتداء به مطلقا بعض أصحابنا ، وتجويز الأكثر له ; لمراعاة مصلحة الجماعة واكتفاء بوجود صورتها ، وإلا لم يصح اقتداء بمخالف وتعطلت الجماعات فالأقل جماعة أفضل . ولو تعذرت الجماعة إلا خلف من يكره الاقتداء به لم تنتف الكراهة كما شمله كلامهم ، ولا نظر لإدامة تعطيلها لسقوط فرضها حينئذ ( أو تعطل مسجد قريب ) أو بعيد عن الجماعة ( لغيبته ) عنه لكونه إمامه أو يحضر الناس بحضوره ، فقليل [ ص: 143 ] الجمع أفضل من كثيره في ذلك ، ومقتضى قول الأصحاب أن الاقتداء بإمام الجمع القليل أفضل من الاقتداء بإمام الجمع الكثير إذا كان مخالفا فيما يبطل الصلاة حصول فضيلة الجماعة خلف هؤلاء ، وأنها أفضل من الانفراد .

                                                                                                                            قال السبكي : إن كلامهم يشعر به وجزم به الدميري . وقال الكمال بن أبي شريف : لعله الأقرب ، وهو المعتمد وبه أفتى الوالد رحمه الله ، وما قاله أبو إسحاق المروزي من عدم حصولها وجه ضعيف وقد نظر فيه الطبري ، بل نقل [ ص: 144 ] عن أبي إسحاق أن الاقتداء بالمخالف غير صحيح .

                                                                                                                            ويستثنى من كون كثير الجمع أفضل من قليله صور أيضا : منها ما لو كان قليل الجمع يبادر إمامه في الوقت المحبوب فإن الصلاة معه في أول الوقت أولى كما قاله في شرح المهذب . ومنها ما لو كان إمام الجمع الكثير سريع القراءة والمأموم بطيئها لا يدرك معه الفاتحة ويدركها مع إمام الجمع القليل قاله الفوراني .

                                                                                                                            ومنها ما لو كان قليل الجمع ليس في أرضه شبهة وكثير الجمع بخلافه لاستيلاء ظالم عليه ، فالسالم من ذلك أولى ، ولو استوى مسجدا جماعة قدم الأقرب مسافة لحرمة الجوار ، ثم ما انتفت الشبهة فيه عن مال بانيه أو واقفه ثم يتخير .

                                                                                                                            نعم إن سمع النداء مرتبا فذهابه إلى الأول أفضل كما بحثه الأذرعي ; لأن مؤذنه دعاه أولا .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            حاشية الشبراملسي

                                                                                                                            ( قوله : أفضل مما قل جمعه ) بقي شيء آخر ، وهو أن الإمام أكثر ثوابا من المأموم أخذا مما قالوه من المفاضلة بينها وبين الأذان على الخلاف في ذلك ، وحينئذ لو تعارض كونه إماما مع جمع قليل ومأموما مع جمع كثير فهل يستوي الفضيلتان وتجبر فضل الكثرة الإمامة فيصلي إماما أو لا فيصلي مأموما ؟ [ ص: 142 ] فيه نظر ، والأقرب الأول لما في الإمامة من تحصيل الجماعة لغيره ، بخلاف المأموم فإن الجماعة حاصلة بغيره ، فالمنفعة في قدوته عائدة عليه وحده .

                                                                                                                            ( قوله : أفضل من الجماعة في غيرها ) قياس ذلك أنها في المسجد الحرام منفردا أفضل من الجماعة في مسجد المدينة ، وفي مسجد المدينة أفضل منها في المسجد الأقصى ا هـ سم على بهجة . أقول : وقد يتوقف في أفضلية الانفراد في مسجد المدينة على الجماعة في الأقصى ; لأن الجماعة في المسجد الأقصى بسبع وعشرين وفي المدينة بصلاتين في الأقصى ، فالجماعة في الأقصى تزيد بخمس وعشرين على مسجد المدينة ، إلا أن يقال : إن الصلوات التي ضوعفت بها الصلوات في الأقصى من الصلوات بغير المساجد الثلاثة فليتأمل فإنه فيه بعد شيء ( قوله : وهو الأوجه ) أي خلافا لابن حجر ( قوله : القاعدة السابقة ) وهي المحافظة على الفضيلة المتعلقة بالعبادة أولى من المحافظة على الفضيلة المتعلقة بمكانها ، ( قوله : خلاف ما قالاه ) أي الغزالي وابن عبد السلام ( قوله : وهو كذلك ) من م ر ( قوله : إن الجماعة فرض عين ) عبارة ابن حجر : ولو تعارض الخشوع والجماعة فهي أولى كما أطبقوا عليه حيث قالوا : إن فرض الكفاية أفضل من السنة ، وأيضا فالخلاف في كونها فرض عين وكونها شرطا لصحة الصلاة أقوى منه في شرطية الخشوع . وقضيتها جريان الخلاف في كون الجماعة شرطا للصحة ، وهو خلاف ما اقتضاه كلام الشارح من أنها ليست شرطا قطعا ، ويصرح بما اقتضاه كلام ابن حجر قول الأذرعي في القوت ما نصه : وحكى الإمام عن ابن خزيمة أنه جعلها شرطا في الصحة . وفي البحر : وقيل إنها شرط في الصحة : أي لغير المعذور ، وقضية كلام ابن كج والدارمي أن القول بأنها فرض عين ليس بوجه لنا ألبتة انتهى ، ومثله في الإسنوي ( قوله : والمتهم بذلك ) أي تهمة قوية ( قوله : كما شمله كلامهم ) هذه مقالة أخذا من قوله بعد : [ ص: 143 ] ومقتضى قول الأصحاب أن الاقتداء بإمام الجمع القليل إلخ ( قوله : أفضل من الانفراد ) ولا فرق في أفضليتها بين وجود غيرها وعدمه .

                                                                                                                            وقياس ذلك أن الإعادة مع هؤلاء أفضل من عدمها بالمعنى المذكور . ا هـ سم على ابن حجر ( قوله : وهو المعتمد ) قد يشكل اعتماد أن الاقتداء بهم أفضل من الانفراد بما مر من أنه لو تعطلت الجماعة إلا خلف من يكره الاقتداء به لم تنتف الكراهة فليتأمل .

                                                                                                                            ويجاب بأن المراد أن هذا مقابل لما مر من بقاء الكراهة ، وعليه فكأنه قال : ولو تعطلت الجماعة إلا خلف هؤلاء لم تزل الكراهة كما قاله بعضهم .

                                                                                                                            وقال السبكي ومن وافقه بزوالها وحصول الفضيلة ، وعليه فلا تنافي ولا إشكال ، ويصرح بهذا ما قاله سم على ابن حجر من انتفاء الكراهة ، وأنه بحث مع م ر فوافق عليه [ فرع ] إذا كان عليه الإمامة في مسجد فلم يحضر معه أحد يصلي معه وجبت عليه الصلاة فيه وحده ; لأن عليه شيئين : الصلاة في هذا المسجد ، والإمامة فيه ، فإذا مات أحدهما لا يسقط الآخر ، بخلاف من عليه التدريس إذا لم يحضر أحد من الطلبة لا يجب أن يدرس لنفسه ; لأن المقصود من المدرس التعليم ولا يتصور بدون متعلم ، بخلاف الإمام المقصود منه أمران كما تقدم . م ر ا هـ سم منهج .

                                                                                                                            أقول : وقوله لا يجب أن يدرس إلخ يفيد أنه ليس المراد بالطلبة المقررين في الوظائف بل حيث كان إذا حضر يحضر عنده من يسمعه وجبت القراءة عليه ، ثم إنه ليس المراد بالوجوب الإثم بالترك من حيث هو ترك للإمامة أو التدريس بل المراد وجوب ذلك لاستحقاقه المعلوم .

                                                                                                                            [ فائدة ] كان شيخنا الشوبري يقول : إذا حضر المدرس وحضر عنده من يسمعه يقرأ لهم ما يستفيدونه كالترغيب والترهيب وحكايات الصالحين . أقول : ولعل هذا محمول على ما إذا عين الواقف شيئا من ذلك . ومنه ما لو عين تفسيرا مثلا ولم يحضر عنده من يفهمه فلا تجب عليه القراءة ويستحق المعلوم . ولا يقال : يقرأ ما يمكنهم [ ص: 144 ] فهمه ; لأنا نقول : هذا خلاف ما شرطه الواقف ; لأن غرضه قراءة هذا بخصوصه دون غيره .

                                                                                                                            ( قوله : في الوقت المحبوب ) يؤخذ منه أن الكلام فيما إذا كان الثاني يؤخر الصلاة عن وقت الفضيلة ، وعليه فالصلاة خلف إمام الطيبرسية مثلا ليست أفضل من الصلاة خلف إمام الأزهر لوقوع كل منهما في وقت الفضيلة ، وما في سم على ابن حجر مما يخالف ذلك لعله باعتبار زمانه من أن إمام الأزهر كان يؤخر الصلاة عن وقت الفضيلة . ( قوله : ومنها ما لو كان إمام إلخ ) وينبغي أن يستثنى أيضا ما لو كان إمام الجمع القليل أفضل من إمام الجمع الكثير لفسقه أو نحوه مما يأتي في صفة الأئمة . ( قوله : ثم يتخير ) أي حيث استويا من كل وجه ، وقوله نعم إن إلخ استدراك على هذه الصورة .



                                                                                                                            حاشية المغربي

                                                                                                                            [ ص: 142 ] قوله : أو لكون الإمام لا يعتقد وجوب بعض بالأركان ) معطوف على ما في المتن ، والاقتداء به مكروه أيضا وإن أوهم سياقه خلافه ( قوله : وإن أتى بها لقصده بها النفلية ) يوهم صحة الاقتداء به إذا لم يأت بها وليس كذلك فالتعبير بالغاية ليس في محله [ ص: 143 ] قوله : حصول فضيلة الجماعة خلف هؤلاء ) أي المبتدع ومن بعده كما يصرح به صنيع التحفة وفي حصول فضيلة الجماعة مع كراهة الاقتداء بهم المصرح بها فيما مر حتى فيما لو تعذرت الجماعة إلا خلفهم وقفة ظاهرة سيما والكراهة فيما ذكر من حيث الجماعة ، وسيأتي في كلامه أن الكراهة إذا كانت من حيث الجماعة تفوت فضيلة الجماعة .

                                                                                                                            لا جرم اختار الشهاب حج مقالة أبي إسحاق المروزي الآتية ، وشيخنا جعل في حاشيته في قوله قول الشارح : ومقتضى قول الأصحاب إلخ ، مقابلا لقوله المار : ولو تعذرت الجماعة إلا خلف من يكره الاقتداء به إلخ ، ثم استشكله معه في قولة أخرى .

                                                                                                                            وأجاب عنه بأن المراد أن هذا مقابل ذاك ، قال : فكأنه قال : ولو تعطلت الجماعة إلا خلف هؤلاء لم تزل الكراهة كما قال بعضهم ، وقال السبكي ومن وافقه بزوالها وحصول الفضيلة . ا هـ .

                                                                                                                            وعليه فقول الشارح : ومقتضى قول الأصحاب إلخ ، مفروض فيما إذا تعذرت الجماعة إلا خلف هؤلاء ، وظاهر أنه ليس كذلك كما يصرح به كلام غيره ، فالإشكال الذي ذكرناه باق بحاله ، ولا وجه لما فهمه الشيخ من هذا القصر فليحرر ( قوله : بل نقل ) بالبناء للمجهول ، والإضراب راجع لكلام أبي إسحاق لا لنظر الطبري وإن أوهمته العبارة .

                                                                                                                            والحاصل أن النقل المحقق عن أبي إسحاق هو ما مر ونظر فيه الطبري ، ومنهم من نقل عن أبي إسحاق أيضا عدم صحة [ ص: 144 ] الاقتداء بالمخالف ، ثم ما نقله الشارح عن أبي إسحاق من عدم حصول فضيلة الجماعة هو نقل باللازم ، وإلا فالذي نقله عنه غير الشارح أخص من ذلك وهو أن الانفراد حينئذ أفضل .

                                                                                                                            وعبارة فتاوى والد الشارح : والوجه الثاني قاله أبو إسحاق المروزي أن الانفراد أفضل من الاقتداء به . قال الطبري : وفيه نظر ، بل نقل عن أبي إسحاق أن الاقتداء بمخالف لا يصح . انتهت .




                                                                                                                            الخدمات العلمية