الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح - محمد بن مفلح بن محمد المقدسي

صفحة جزء
فصل ( ما صح من الأحاديث في اتقاء النار باصطناع المعروف والصدقة ولو بشق تمرة ) .

قد ذكرت ما صح عنه عليه السلام { اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فكلمة طيبة } وقوله عليه السلام { ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق } وقوله عليه السلام { لكل معروف صدقة } قال ابن عباس : ما رأيت رجلا أوليته معروفا إلا أضاء ما بينه وبيني ، ولا رأيت رجلا فرط إليه مني شيء إلا أظلم ما بيني وبينه ، .

وقال ابن عباس أيضا : المعروف أميز زرع ، وأفضل كنز ، ولا يتم إلا بثلاث خصال : بتعجيله وتصغيره وستره ، فإذا عجل فقد هنأ وإذا صغر فقد عظم ، وإذا ستر فقد تمم .

وقال زيد بن علي بن حسين : ما شيء أفضل من المعروف إلا ثوابه ، وليس كل من يرغب فيه يقدر عليه ، ولا كل من قدر عليه يؤذن له فيه ، فإذا اجتمعت الرغبة والقدرة والإذن تمت السعادة للطالب والمطلوب منه .

وقال الشاعر وهو زهير :

ومن يجعل المعروف من دون عرضه يقيه ومن لا يتقي الشتم يشتم

[ ص: 310 ] وقال بعضهم : لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره فإنه يشكرك عليه من لا تصنعه إليه ، وكان يقال في كل شيء إسراف إلا في المعروف وكان يقال لا يزهدنك في اصطناع المعروف دمامة من تسديه إليه ، ولا من ينبو بصرك عنه ، فإن حاجتك في شكره ووفائه لا في منظره ، وكان يقال : اصنع المعروف إلى كل أحد فإن كان من أهله فقد وضعته في موضعه ، وإن لم يكن من أهله كنت أنت من أهله ، قال الشاعر :

ولم أر كالمعروف أما مذاقه     فحلو وأما وجهه فجميل



كان يقال : من أسلف المعروف كان ربحه الحمد وقال عمرو بن العاص : رضي الله عنه في كل شيء سرف إلا في إتيان مكرمة أو اصطناع معروف أو إظهار مروءة ، وقد قيل أيضا : كان يقال كما يتوخى للوديعة أهل الأمانة والثقة كذلك ينبغي أن يتوخى بالمعروف أهل الوفاء والشكر ، وكان يقال : إعطاء الفاجر يقويه على فجوره ، ومسألة اللئيم إهانة للعرض ، وتعليم الجاهل زيادة في الجهل ، والصنيعة عند الكفور إضاعة للنعمة ، فإذا هممت بشيء من هذا فارتد الموضع قبل الإقدام عليه أو على الفعل .

وذكر ابن عبد البر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { أن الصنيعة لا تكون إلا في ذي حسب أو دين كما أن الرياضة لا تكون إلا في نجيب } .

وذكر ابن عبد البر في مكان آخر : خمسة أشياء أضيع شيء في الدنيا : سراج يوقد في الشمس ، ومطر وابل في أرض سبخة ، وامرأة حسناء تزف إلى عنين ، وطعام يستجاد ثم يقدم إلى سكران أو شبعان ، ومعروف تصنعه عند من لا يشكرك ، وفي التوراة مكتوب : افعل إلى امرئ السوء يجزيك شرا وكان يقال : صاحب المعروف لا يقع فإذا وقع أصاب متكئا .

وكتب أرسطوطاليس إلى الإسكندر : املك الرعية بالإحسان إليها تظفر بالمحبة منها ، وطلبك ذلك منها بإحسانك أدوم بقاء منه باعتسافك ، واعلم أنك إنما تملك الأبدان فتخطاها إلى القلوب بالمعروف ، واعلم أن [ ص: 311 ] الرعية إذا قدرت على أن تقول قدرت على أن تفعل ، فاجتهد أن لا تقول ، تسلم من أن تفعل .

وقال معاوية رضي الله عنه ليزيد ابنه : يا بني اتخذ المعروف منالا عند ذوي الأحساب تستمل به مودتهم وتعظم في أعينهم ، وإياك والمنع فإنه ضد المعروف فإنه يقال حصاد من يزرع المعروف في الدنيا اغتباط في الآخرة . ذم أعرابي رجلا فقال : كان سمين المال مهزول المعروف .

وقال الزهري أو الزبيري : من زرع معروفا حصد خيرا ، ومن زرع شرا حصد ندامة .

قال الشاعر :

من يزرع الخير يحصد ما يسر به     وزارع الشر منكوس على الراس

وقال ابن المبارك :

يد المعروف غنم حيث كانت     تحملها شكور أو كفور
ففي شكر الشكور لها جزاء     وعند الله ما كفر الكفور



وقال الأصمعي : سمعت أعرابيا يقول أسرع الذنوب عقوبة كفر المعروف . ولابن دريد وقيل : إنه أنشدهما

وما هذه الأيام إلا معارة     فما اسطعت من معروفها فتزود
فإنك لا تدري بأية بلدة     تموت ولا ما يحدث الله في غد



وقال بزرجمهر : خير أيام المرء ما أغاث فيه المضطر ، وارتهن فيه الشكر ، واسترق فيه الحر .

جمع كسرى مرازبته وعيون أصحابه فقال لهم : على أي شيء أنتم أشد ندامة ؟ فقالوا على وضع المعروف في غير أهله ، وطلب الشكر ممن لا شكر له . قال الشاعر :

وزهدني في كل خير صنعته     إلى الناس ما جربت من قلة الشكر

[ ص: 312 ] وقال :

ومن يجعل المعروف مع غير أهله     يلاق الذي لاقى مجير أم عامر

قال المهلب : عجبت لمن يشتري المماليك بماله ولا يشتري الأحرار بمعروفه وقال : ليس للأحرار ثمن إلا الإكرام فأكرم حرا تملكه .

وقال المتنبي :

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته     وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

وقال عبد مناف : دواء من لا يصلحه الإكرام الهوان . قال الشاعر :

من لم يؤدبه الجميل     ففي عقوبته صلاحه

وقال ابن عقيل في الفنون : فعل الخير مع الأشرار تقوية لهم على الأخيار ، كما لا ينبغي أن يحرم الخير أهله ، لا ينبغي أن يحرم الخير حقه ، فإن وضع الخير في غير محله ظلم للخير كما قيل : لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ، ولا تضعوها في غير أهلها فتظلموها ، كذلك البر والإنعام مفسد لقوم حسب ما يفسد الحرمان قوما ، قال : فهو كالنار كلما أطيب لها مأكلا سطت فأفسدت قال فرقد قال المتنبي :

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا     مضر كوضع السيف في موضع الندى

فالسياسة الكلية افتقاد محال الإنعام قبل الإنعام ، وقال علي رضي الله عنه : كن من خمسة على حذر من لئيم إذا أكرمته ، وكريم إذا أهنته ، وعاقل إذا أحرجته ، وأحمق إذا مازحته ، وفاجر إذا مازجته . انتهى كلامه ويأتي في آخر كراسة في الكتاب ما يتعلق بهذا .

التالي السابق


الخدمات العلمية