الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ) [ ص: 547 ] لما أبطل تعالى مذاهب المشركين في هذه السورة من إثبات الشركاء لله ، والطعن في نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحليل ما حرم ، وتحريم ما أحل ، وكانوا مفتخرين بجدهم إبراهيم - عليه السلام - مقرين بحسن طريقته ووجوب الاقتداء به ، ذكره في آخر السورة وأوضح منهاجه ، وما كان عليه من توحيد الله تعالى ورفض الأصنام ، ليكون ذلك حاملا لهم على الاقتداء به . وأيضا فلما جرى ذكر اليهود بين طريقة إبراهيم ليظهر الفرق بين حاله وحالهم ، وحال قريش . وقال مجاهد : سمي أمة لانفراده بالإيمان في وقته مدة ما . وفي البخاري أنه قال لسارة : ليس على الأرض اليوم مؤمن غيري وغيرك . والأمة لفظ مشترك بين معان منها : الجمع الكثير من الناس ، ثم يشبه به الرجل الصائم ، أو الملك ، أو المنفرد بطريقة وحده عن الناس فسمي أمة ، وقاله ابن مسعود والفراء وابن قتيبة . وقال ابن عباس : كان عنده من الخير ما كان عند أمة ، ومن هنا أخذ الحسن بن هانئ قوله :


وليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد



وعن ابن مسعود : إنه معلم الخير ، وأطلق هو وعمر ذلك على معاذ فقال : كان أمة قانتا . وقال ابن الأنباري : هذا مثل قول العرب : فلان رحمة ، وعلامة ، ونسابة ، يقصدون بالتأنيث التناهي في المعنى الموصوف به . وقيل : الأمة : الإمام الذي يقتدى به ، من أم يؤم ، والمفعول قد يبنى للكثرة على فعلة وتقدم تفسير القانت ، والحنيف . شاكرا لأنعمه : روي أنه كان لا يتغدى إلا مع ضيف ، فلم يجد ذات يوم ضيفا فأخر غداه ، فإذا هو بفوج من الملائكة في صورة البشر ، فدعاهم إلى الطعام ، فخيلوا أن بهم جذاما فقال : الآن وجبت مؤاكلتكم ، شكرا لله على أنه عافاني وابتلاكم . وآتيناه في الدنيا حسنة ، قال قتادة : حببه الله تعالى إلى كل الخلق ، فكل أهل الأديان يتولونه اليهود والنصارى والمسلمون ، وخصوصا كفار قريش ، فإن فخرهم إنما هو به ، وذلك بإجابة دعوته . ( واجعل لي لسان صدق في الآخرين ) وقيل : الحسنة : قول المصلي منا : كما صليت على إبراهيم . وقال ابن عباس : الذكر الحسن . وقال الحسن : النبوة . وقال مجاهد : لسان صدق . وقال قتادة : القبول ، وعنه تنويه الله بذكره . وقيل : الأولاد الأبرار على الكبر . وقيل : المال يصرفه في الخير والبر . ( وإنه لمن الصالحين ) ، تقدم الكلام على هذه الجملة في البقرة ، ولما وصف إبراهيم عليه السلام بتلك الأوصاف الشريفة أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يتبع ملته ، وهذا الأمر من جملة الحسنة التي آتاها الله إبراهيم في الدنيا . قال ابن فورك : وأمر الفاضل باتباع المفضول ، لما كان سابقا إلى قول الصواب والعمل به . وقال الزمخشري : ثم أوحينا في ( ثم ) هذه ما فيها من تعظيم منزلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإجلال محله ، والإيذان بأن أشرف ما أوتي خليل الله إبراهيم - عليه السلام - من الكرامة ، وأجل ما أوتي من النعمة اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ملته ، من قبل أنها على تباعد هذا النعت في المرتبة من بين سائر النعوت التي أثنى الله عليها بها ; انتهى . وأن تفسيرية ، أو في موضع المفعول . واتباع ملته ; قال قتادة : في الإسلام ، وعنه أيضا : جميع ملته إلا ما أمر بتركه . وعن عمرو بن العاص : مناسك الحج . وقال القرطبي : الصحيح عقائد الشرع دون الفروع لقوله : ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) وقيل : في التبري من الأوثان . وقال قوم كان على شريعة إبراهيم ، وليس له شرع ينفرد به ، وإنما المقصود من بعثته إحياء [ ص: 548 ] شرع إبراهيم عليه السلام . قال أبو عبد الله الرازي : وهذا القول ضعيف ، لأنه وصف إبراهيم في هذه الآية بأنه ما كان من المشركين ، فلما قال : اتبع ملة إبراهيم ، كان المراد ذلك . فإن قيل : النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نفى الشرك وأثبت التوحيد بناء على الدلائل القطعية ، وإذا كان كذلك لم يكن متابعا له ، فيمتنع حمل قوله : أن اتبع ، على هذا المعنى ، فوجب حمله على الشرائع التي يصح حصول المتابعة فيها .

( قلت ) : يحتمل أن يكون المراد متابعته في كيفية الدعوة إلى التوحيد ، وهي أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة ، وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن ; انتهى . ولا يحتاج إلى هذا ، لأن المعتقد الذي تقتضيه دلائل العقول لا يمتنع أن يوحى لتظافر المعقول والمنقول على اعتقاده . ألا ترى إلى قوله تعالى : ( قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ) فليس اعتقاد الوحدانية بمجرد الوحي فقط ، وإنما تظافر المنقول عن الله في ذلك مع دليل العقل . وكذلك هنا أخبر تعالى أن إبراهيم لم يكن مشركا ، وأمر الرسول باتباعه في ذلك ، وإن كان انتفاء الشرك ليس مستنده مجرد الوحي ، بل الدليل العقلي والدليل الشرعي تظافرا على ذلك . وقال ابن عطية : قال مكي : ولا يكون - يعني حنيفا - حالا من إبراهيم لأنه مضاف إليه ، وليس كما قال لأن الحال قد تعمل فيها حروف الخفض إذا عملت في ذي الحال كقولك : مررت بزيد قائما ; انتهى . أما ما حكي عن مكي وتعليله امتناع ذلك بكونه مضافا إليه ، فليس على إطلاق هذا التعليل لأنه إذا كان المضاف إليه في محل رفع أو نصب ، جازت الحال منه نحو : يعجبني قيام زيد مسرعا ، وشرب السويق ملتوتا . وقال بعض النحاة : ويجوز أيضا ذلك إذا كان المضاف جزءا من المضاف إليه كقوله : ( ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا ) أو كالجزء منه كقوله : ( ملة إبراهيم حنيفا ) وقد بينا الصحيح في ذلك فيما كتبناه على التسهيل ، وعلى الألفية لابن مالك . وأما قول ابن عطية في رده على مكي بقوله : وليس كما قال ، لأن الحال إلى آخره ، فقول بعيد عن قول أهل الصنعة ، لأن الباء في ( بزيد ) ليست هي العاملة في قائما ، وإنما العامل في الحال مررت ، والباء وإن عملت الجر في زيد فإن زيدا في موضع نصب بمررت ، وكذلك إذا حذف حرف الجر حيث يجوز حذفه نصب الفعل ذلك الاسم الذي كان مجرورا بالحرف . ولما أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - باتباع ملة إبراهيم عليه السلام ، وكان الرسول قد اختار يوم الجمعة ، فدل ذلك على أنه كان في شرع إبراهيم ، بين أن يوم السبت لم يكن تعظيمه ، واتخاذه للعبادة من شرع إبراهيم ولا دينه ، والسبت مصدر ، وبه سمي اليوم . وتقدم الكلام في هذا اللفظ في الأعراف . قال الزمخشري : سبتت اليهود إذا عظمت سبتها ، والمعنى : إنما جعل وبال السبت وهو المسخ على الذين اختلفوا فيه ، واختلافهم فيه : أنهم أحلوا الصيد فيه تارة وحرموه تارة ، وكان الواجب عليهم أن يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة بعدما حتم الله عليهم الصبر عن الصيد فيه ، والمعنى في ذكر ذلك نحو المعنى في : ضرب القرية التي كفرت بأنعم الله مثلا ، وغير ما ذكر وهو الإنذار من سخط الله على العصاة والمخالفين لأوامره والخالعين ربقة طاعته .

( فإن قلت ) : فما معنى الحكم بينهم إذا كانوا جميعا محلين أو محرمين ؟ ( قلت ) : معناه أنه يجازيهم جزاء اختلاف فعلهم في كونهم محلين تارة ومحرمين أخرى ، ووجه آخر وهو أن موسى - عليه السلام - أمرهم أن يجعلوا في الأسبوع يوما للعبادة ، وأن يكون يوم الجمعة ، فأبوا عليه وقالوا : نريد اليوم الذي فرغ الله فيه من خلق السماوات والأرض وهو السبت ، إلا شرذمة منهم قد رضوا بالجمعة ، فهذا اختلافهم في السبت ، لأن بعضهم اختاره ، وبعضهم اختار عليه الجمعة ، فأذن الله لهم في السبت ، وابتلاهم بتحريم الصيد فيه ، فأطاع أمر الله الراضون بالجمعة فكانوا لا يصيدون ، وأعقابهم لم يصبروا عن الصيد فمسخهم الله دون أولئك . [ ص: 549 ] وهو يحكم بينهم يوم القيامة ، فيجازي كل واحد من الفريقين بما يستوجبه . ومعنى جعل السبت : فرض عليهم تعظيمه ، وترك الاصطياد فيه ; انتهى . وهو كلام ملفق من كلام المفسرين قبله . وقال الكرماني : عدي جعل بعلى ، لأن اليوم صار عليهم لا لهم ، لارتكابهم المعاصي فيه ; انتهى . ولهذا قدره الزمخشري : إنما جعل وبال السبت . وقال الحسن : جعل السبت لعنة عليهم بأن جعل منهم القردة . وقال ابن عباس : إن الله سبحانه قال : ذروا الأعمال في يوم الجمعة وتفرغوا فيه لعبادتي ، فقالوا : نريد السبت ، لأن الله تعالى فرغ فيه من خلق السماوات والأرض ، فهو أولى بالراحة . وقرأ أبو حيوة : جعل بفتح الجيم والعين ، مبنيا للفاعل ، وعن ابن مسعود والأعمش : أنهما قرءا إنما أنزلنا السبت ، وهي تفسير معنى لا قراءة ، لأنها مخالفة لسواد المصحف المجمع عليه ، ولما استفاض عن الأعمش وابن مسعود أنهما قرءا كالجماعة .

التالي السابق


الخدمات العلمية