الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      المسألة الرابعة : إذا اختلف أهل العصر في مسألة على قولين ، فهل يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث ؟ فيه مذاهب : [ ص: 517 ] الأول : المنع مطلقا ، وهو كاتفاقهم على أن لا قول سوى هذين القولين . قال الأستاذ أبو منصور : وهو قول الجمهور ، وقال إلكيا : إنه الصحيح ، وبه الفتوى ، وقال ابن برهان : إنه مذهبنا ، وجزم به القفال الشاشي في كتابه ، والقاضي أبو الطيب ، وكذا الروياني ، والصيرفي ، ولم يحكيا مقابله إلا عن بعض المتكلمين . قال الصيرفي : وقد رأيته موجودا في فتيا بعض الفقهاء من المتأخرين ، فلا أدري أكان قال هذا مناقضة ، أو غلطا ، أو كان يذهب إلى هذا المذهب . وكذلك ابن القطان ، لم يحك مقابله إلا عن داود ، فقال : إذا اختلف الناس في حد السكر ، فقيل : ثمانون ، وقيل : أربعون ، فهو إجماع على نفي ما عداهما ، وقال داود : لا يكون هذا إجماعا ; لأنها قد وقعت مخالفة ، فيجب أن يكون حكم الله فيها الاختلاف . قال : وهذا ليس بشيء ; لأن الموضع الذي اختلفوا فيه غير الذي اتفقوا عليه . وقال صاحب الكبريت الأحمر " : هو مذهب عامة الفقهاء ، ونص عليه الشافعي - رحمه الله في رسالته " ، وكذا ذكره محمد بن الحسن في نوادر هشام " ; لأنه عد الأصول ، وعد في جملتها اختلاف الصحابة .

                                                      والثاني : الجواز مطلقا . قال القاضي أبو الطيب : رأيت بعض أصحاب أبي حنيفة يختاره وينصره [ ص: 518 ] ونقله ابن برهان ، وابن السمعاني عن بعض الحنفية ، والظاهرية ، ونسبه جماعة منهم القاضي عياض إلى داود . قال : ثم ناقض فشرط الولي في صحة عقد البكر دون الثيب ، مع أن الخلاف هل يلزم فيهما ، أو لا يلزم فيهما ؟ وأنكر ابن حزم على من نسبه لداود ، وإنما قال كلاما معناه : أن القولين إذا رويا ، ولم يصح أنهم أجمعوا عليهما ، ولم يرد عن جماعة منهم أو واحد إنكار ولا تصويب ، أن لمن جاء بعدهم أن يأتي بقول ثالث يدل عليه النص أو الإجماع ، فهذا ما قاله أبو سليمان ، فكيف يسوغ أن ينسب هذا إليه ، وهو يقول : إن الأمة إذا تفرقت على قولين ، وكانت كل طائفة منهم قد قرنت بقولها في تلك المسألة مسألة أخرى ، فإنه ينبغي أن يحكم لتلك المسألتين بحكم واحد ، فإن صحت إحدى المسألتين فالأخرى صحيحة ، ولذلك حكم بالتحليف بمكة عند المقام لإجماع القائلين بذلك على التحليف عند المنبر ، فيصح وجوبه عند الزحام بمكة .

                                                      قال ابن حزم : وهذا القول وإن كنا لا نقول به ، فقد قاله أبو سليمان ، وأردنا تحرير النقل عنه ، وإنما قال : إن الخلاف إذا صح فالإجماع على بعض تلك الأقوال المختلف فيها لا يصح أبدا ، وصدق في ذلك . وهذا كالخلاف في حد شارب الخمر ، قيل : لا حد عليه ، وقيل : أربعون ، وقيل : ثمانون . فهذا لا ينعقد عليه إجماع أبدا .

                                                      والثالث : وهو الحق عند المتأخرين أن الثالث إن لزم منه رفع ما أجمعوا عليه لم يجز إحداثه ، وإلا جاز ، وكلام الشافعي في الرسالة " يقتضيه ، حيث قال في أواخرها : القياس تقدم الأخ على الجد ، لكن صدنا عن القول به أني وجدت المختلفين مجتمعين على أن الجد مع الأخ مثله أو أكثر حظا [ ص: 519 ] منه ، فلم يكن لي عندي خلافهم ، ولا الذهاب إلى القياس ، والقياس مخرج من جميع أقاويلهم . ا هـ . وإنما منعه ; لأن في إحداث قول ثالث رفعا للإجماع ، وأما حيث لا رفع فتصرفه يقتضي جوازه ، وقضية كلام الهروي في الإشراف " أنه مذهب الشافعي ، فإنه قال : ومن لفق من القولين قولا على هذا الوجه لا يعد خارقا للإجماع كما ذكرنا في وطء الثيب ، هل يمنع الرد بالعيب ؟ تحزبت الصحابة حزبين : ذهبت طائفة إلى أنه يردها ، ويرد معها عقرها ، وذهب حزب إلى أنه لا يرد ، فأخذ الشافعي في إسقاط العقر بقول حزب ، وفي تجويز الرد بقول حزب ، ولم يعد ذلك خرقا للإجماع . ا هـ .

                                                      ولعله مبني على أنه لا يجوز حدوث إجماع بعد إجماع سابق على خلافه . فإن قلنا بالجواز ، كما ذهب إليه البصري ، فالظاهر الجواز ، لكنه لا يقع . وقد اعترض بعض الحنفية على اختيار الثالث ، وقال : لا معنى له ; لأنه لا نزاع في أن القول الثالث إن استلزم إبطال ما أجمعوا عليه كان مردودا ، والخصم يستلزم هذا ، لكن يدعي أن القول الثالث يستلزم إبطال ما أجمعوا عليه في جميع الصور ، إما في صورة واحدة كما في مسألة العدة وحرمان الجد ، وإما في مجموع المسألتين في مسألة الزوج ، والزوجة مع الأبوين أحد الشمولين ثابت ، وهو ثلث الكل في كليهما ، أو ثلث الباقي في كليهما . فثلث في أحدهما دون الآخر خلاف الإجماع .

                                                      قال : فالشأن في تمييز صورة يلزم منها بطلان الإجماع عن صورة لا يلزم ذلك ، فلا بد من ضابط ، وهو أن القولين إن اشتركا في أمر هو في الحقيقة واحد ، وهو من الأحكام الشرعية ، فحينئذ يكون الثالث مستلزما لإبطال الإجماع وإلا فلا ، وعند ذلك فالمختلف فيه إما حكم يتعلق بمحل واحد ، كمسألة الجد مع [ ص: 520 ] الإخوة والعدة ، أو متعدد . فإن كان الثابت عن البعض الوجود في صورة مع العدم في الأخرى ، وعند البعض عكس ذلك ، كمسألة الخروج والمس ، فإن القول بأن كلا منهما ناقض أو ليس بناقض ، لا يكون خلاف الإجماع .

                                                      تنبيهات . الأول : ذكر القولين مثال ، فالثلاثة وأكثر كذلك ، كما قاله الصيرفي ، ومثله بأقوالهم في الجد . قال : فلا يجوز إحداث قول سوى ما تقدم ; لأنه كاتفاقهم على أنه لا قول سوى هذه الأقوال . الثاني : أن الصيرفي أيضا فرض المسألة في اختلاف الصحابة ، فقد توهم التفصيل بين ما أجمع على أنه حجة فيمتنع فيه الإحداث دون غيره ، وليس ببعيد . الثالث : أنه نبه أيضا على تصورها بالاختلاف المستفيض فيهم . قال : فأما ما حكى من فتوى واحد ، ولم يستفض قوله ، فيجوز الخروج عنه إلى ما أيده دليل ، ويخرج منه مذهب آخر مفصل بين الإجماع السكوتي وغيره . الرابع : قال العبدري : إنما يصح فرض هذه المسألة على مذهب من يجوز الإجماع عن اجتهاد وقياس ، وعلى أن تكون اجتهادية يتجاذبها أصلان ، فيجمع الصحابة على أنه يجوز أن يلحق بهذا الأصل ، فيكون حلالا ، ويجوز أن يلحق بهذا الأصل ، فيكون حراما ، فإذا لم ينقرض إلا على هذا الوجه ، فإحداث قول ثالث ورابع وأكثر جائز ; لأنها اجتهادية ، ولا حصر في المجتهدات .

                                                      وأما إذا كان معنى قولهم : إذا أجمع الصحابة على قولين أجمع هؤلاء على قول ، وخطئوا من خالفه ، وأجمع هؤلاء على قول آخر وخطئوا من [ ص: 521 ] خالفه ، فليس بإجماع ، ولكنه خلاف صحيح ، وإذا لم يكن إجماعا فإحداث قول ثالث أو رابع وأكثر فجائز أيضا ، وبالجملة فلم يأخذوا في هذه المسألة الإجماع الشرعي ، بل اللغوي ، وفيما قاله نظر . الخامس : لم يتعرضوا لهذه المسألة بالنسبة إلى عصر واحد ، بأن يختلف الصحابة على قولين ، ثم يحدث بعضهم قولا ثالثا ، والقياس التفصيل بين أن لا يستقر الخلاف فيجوز ، وبين أن لا يستقر ، فينبني على الخلاف في انقراض العصر ، فإن قلنا : شرط جاز ، وإلا فلا ، ولو أدرك بعض التابعين عصر الصحابة ، فأحدث ثالثا ، فالقياس بناؤه على الوجهين في الانقراض أو على الوجهين في قول التابعي مع الصحابة ، وهل يعتد به ؟ ومثاله ما لو وجد ماء لا يكفيه للوضوء فهل يقتصر على التيمم ، أو يستعمله ويتيمم ؟ قولان للصحابة ، فأحدث الحسن قولا ثالثا ، فقال : يستعمل ما معه ثم يجمع ما يتساقط . من الماء فيعمل به .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية