الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين ) .

                          [ ص: 453 ] قصة لوط عليه السلام

                          خير ما يعرف به لوط عليه السلام أنه ابن أخي إبراهيم خليل الرحمن ( صلى الله على نبينا وعليهما وسلم ) كما في كتب الأنساب وسفر التكوين ، وفيه أن اسم والده ( حاران ) وأنه ولد في ( أور الكلدانيين ) وهي في طرف الجانب الشرقي من جنوب العراق الغربي من ولاية البصرة - وكانت تلك البقعة تسمى أرض بابل . وأنه بعد موت والده سافر مع عمه إبراهيم صلى الله عليهما وسلم إلى ما بين النهرين الذي كان يسمى جزيرة قورا ، ومنه ما يسمى الآن بجزيرة ابن عمر وهو مكان تحيط به دجلة فقط ( وهنالك كانت مملكة أشور ) فإلى أرض كنعان من سورية . ثم أسكنه إبراهيم في شرق الأردن باختياره لها لجودة مراعيها ، وكان في ذلك المكان - المسمى بعمق السديم بقرب البحر الميت الذي سمي ببحر لوط أيضا - القرى أو المدن الخمس : سدوم وعمورة وأدمة وصبوبيم وبالع التي سميت بعد ذلك صوغر لصغرها ، فسكن لوط عليه السلام في عاصمتها سدوم التي كانت تعمل الخبائث ، ولا يعلم أحد الآن أين كانت تلك القرى من جوار بحر لوط إذ لو لم يوجد من الآثار ما يدل عليها ، فمن المؤرخين من يظن أن البحر غمر موضعها ولا دليل على ذلك . وكانت عمورة تلي سدوم في الكبر وفي الفساد ، وهما اللتان يحفظ اسمهما الناس إلى الآن .

                          واسم لوط مصروف وإن كان أعجميا لكونه ثلاثيا ساكن الوسط كنوح ، وقال بعض المفسرين : إنه عربي من مادة لاط الشيء بالشيء لوطا أي لصق به ، ولكن بعض أهل الكتاب يقول : إن معنى كلمة لوط بالعبرانية " ستر " فهي من الكلمات التي تختلف معنى مادتها العربية عن مادتها العبرية والسريانية أختي العربية الصغريين ، على أنه يقرب منه فإن اللصوق ضرب من الستر . ويراجع ما ذكرناه في لغة إبراهيم في تفسير الآية ( 74 س 6 ) [ ص 445 وما بعدها ج 7 ط الهيئة ] قال تعالى :

                          ( ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ) النسق الذي قبل هذا يقتضي أن يكون المعنى : وأرسلنا لوطا - ولكن حذف هنا متعلق الإرسال وركنه الأول وهو توحيد العبادة للعلم به مما قبله ومما ذكر في غير هذه السورة ، أي أرسلناه في الوقت الذي أنكر على قومه فعل الفاحشة فيما بلغهم من دعوى الرسالة ، وقيل : إن لوطا منصوب بفعل مقدر ، أي واذكر لوطا إذ قال لقومه موبخا لهم : أتفعلون الفعلة البالغة منتهى القبح والفحش ؟ ( ما سبقكم بها من أحد من العالمين ) بل هي من مبتدعاتكم في الفساد ، فأنتم فيها قدوة سوء ، فعليكم وزرها ومثل أوزار من يتبعكم فيها إلى يوم القيامة . فالجملة استئناف نحوي أو بياني يؤكد التوبيخ ببيان أنه فساد مخالف لمقتضى الفطرة ولهداية الدين معا ، و " الباء " في قوله : ( بها ) للتعدية أو الملابسة أو الظرفية - أقوال . وقوله : ( من أحد ) يفيد تأكيد النفي وعمومه المستغرق [ ص: 454 ] لكل البشر على الظاهر المتبادر وإن كان اللفظ يصدق بعالمي زمانهم ، ولكونهم هم المبتدعين لها اشتق العرب لها اسما من لوط فقالوا لاط به لواطة .

                          ( إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء ) استئناف بياني مفسر للإتيان المجمل الذي قبله . والإتيان كناية عن الاستمتاع الذي عهد بمقتضى الفطرة بين الزوجين تدعو إليه الشهوة ويقصد به النسل ، وتعليله هنا بالشهوة وتجنب النساء بيان لخروجهم عن مقتضى الفطرة ، وما اشتملت عليه هذه الغريزة من الحكمة التي يقصدها الإنسان العاقل والحيوان الأعجم . فسجل عليهم بابتغاء الشهوة وحدها أنهم أخس من العجماوات وأضل سبيلا ، فإن ذكورها تطلب إناثها بسائق الشهوة لأجل النسل الذي يحفظ به نوع كل منها ، ألا ترى أن الطير والحشرات تبدأ حياتها الزوجية ببناء المساكن الصالحة لنسلها في راحته وحفظه مما يعدو عليه - من عش في أعلى شجرة أو وكنة في قلة جبل أو جحر في باطن الأرض أو غيل في داخل أجمة أو حرجة ؟ - وهؤلاء المجرمون لا غرض لهم إلا إرضاء حس الشهوة وقضاء وطر اللذة . ومن قصد الشهوات لذاتها ، تمتعا بلذاتها ، دون الفائدة التي خلقها الله تعالى لأجلها ، جنى على نفسه غائلة الإسراف فيها ، فانقلب نفعها ضرا ، وصار خيرها شرا ، يجعل الوسيلة مقصدا ، وصيرورة الإسراف فيه خلقا ؛ إذ الفعل يكون حينئذ عن داعية ثابتة لا عن علة عارضة ، فلا يزال صاحبه يعاوده حتى يكون ملكة راسخة له ، فتكرار العمل يكون الملكة ، والملكة تدعو إلى تكرار العمل والإصرار عليه ، وهذا وجه إضراب الانتقال من إسناد إتيان الفاحشة إليهم بفعل المضارع المفيد للتكرار والاستمرار إلى إسناد صفة الإسراف إليهم بقوله :

                          ( بل أنتم قوم مسرفون ) أي لستم تأتون هذه الفاحشة المرة بعد المرة بعد ندم وتوبة عقب كل مرة ، بل أنتم مسرفون فيها وفي سائر أعمالكم لا تقفون عند حد الاعتدال في عمل من الأعمال ، ففي سورة العنكبوت مكان هذه الآية - وما قبلها عين ما قبلها - ( أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر ) ( 29 : 29 ) وفي سورة الشعراء مكان هذا الإضراب هنا : ( بل أنتم قوم عادون ) ( 26 : 166 ) أي متجاوزون لحدود الفطرة وحدود الشريعة ، فهو بمعنى الإسراف ، وفي سورة النمل : ( بل أنتم قوم تجهلون ) ( 55 :27 ) وهو يشمل الجهل الذي هو ضد العلم ، والجهل الذي هو بمعنى السفه والطيش . ومجموع الآيات يدل على أنهم كانوا مرزئين بفساد العقل والنفس ، بجمعهم بين الإسراف والعدوان [ ص: 455 ] والجهل ، فلا هم يعقلون ضرر هذه الفاحشة في الجناية على النسل وعلى الصحة وعلى الفضيلة والآداب العامة ولا غيرها من منكراتهم - فيجتنبوها أو يجتنبوا الإسراف فيها - ولا هم على شيء من الحياء وحسن الخلق يصرفهم عن ذلك .

                          وما كان العلم بالضرر وحده ليصرف عن السوء والفساد ، إذا حرم صاحبه الفضائل ومكارم الأخلاق ، بل الفضائل الموهوبة بسلامة الفطرة ، عرضة للفساد بسوء القدوة ، إلا إذا رسخت بالفضائل المكسوبة بتربية الدين ، فإننا نعلم أن هذه الفاحشة فاشية بين أعرف الناس بمفاسدها ومضارها في الأبدان والأنفس ونظام الاجتماع من المتعلمين على الطريقة المدنية العصرية ، حتى الباحثين في الفلسفة منهم ، فقد بلغني عن بعضهم أنه قال لأخدانه : إن هذه الفعلة لا تحدث نقصا في النفس الناطقة ! ! ونقول : يا لها من فلسفة فاسقة أليسوا يستخفون بها من الناس حتى أشدهم استباحة للشهوات كالإفرنج لكي لا ينتقصوهم ويمتهنوهم ؟ أو ليسوا بذلك يشعرون بنقص أنفسهم الناطقة ودنسها ، فإن لم يشعر الفاعل ، أفلا يشعر القابل ؟ بلى ولكن قد يجهل كثير من الأحداث الذين يخدعون عن أنفسهم بهذه الفاحشة أنهم يصابون بداء الأبنة ، حتى إذا كبر أحدهم وصار لا يجد من الفساق من يرغب في إتيانه للاستمتاع به يبحث هو في الخفاء عمن يؤجر نفسه لهذا العمل من تحوت الفقراء وأراذل الخدم ، فيجعل له جعلا أو راتبا على إتيانه ، وهو لا يلبث أن يعاف هذا المنكر أو يعجز عن إرضاء صاحبه ( المهين عنده المحترم عند من لا يعرف حاله ) فينشد المأبون غيره ، ولا يزال يذل ويخزى في مساومة أفراد هذه الطبقة السفلى على نفسه حتى يفتضح أمره في البلد ، ويشتهر بل يشهر بين سائر طبقات الناس ، فإن أكثر التحوت الذين يعلونه لا يخجلون من إفشاء سرهم معه ؛ ولأنه كثيرا ما يعرض نفسه على من ليس منهم ويراودهم بالتصريح ، إذا لم يعرضوا عنه عندما يبدأ به من التعريض والتلويح ، أفنسي من ذكرنا من فلاسفة الفسق هذا الخزي ؟ أم يرون أنه لا يدنس النفس الناطقة بنقص ؟ فقبح اللواطة وفحشها ليس بكونها لذة بهيمية كما قيل ، إذ اللذة البهيمية لا قبح فيها لذاتها لأنها مقتضى الفطرة ومبدأ حكمة بقاء النسل ، بل فحشها باستعمالها بما يخالف مقتضى الفطرة وحكمتها ، وبما يترتب عليها من المضار البدنية والاجتماعية والأدبية الكثيرة .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية