الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ) أي وما كان جواب قومه عن هذا الإنكار والنصيحة شيئا مما يدخل في باب الحجة ولا الاعتذار ، ولا غير ذلك مما اعتيد في الجدال ، ما كان إلا الأمر بإخراجه هو ومن آمن معه من قريتهم ، وتعليل ذلك بأنهم أناس يتطهرون ويتنزهون عن مشاركتهم في رجسهم ، فلا سبيل إلى [ ص: 456 ] معاشرتهم ولا مساكنهم مع هذه المباينة ، فإن الناقص يستثقل معاشرة الكامل الذي يحتقره وفي سورة الشعراء أنهم أنذروه هذا الإخراج ، إذا هو لم ينته عن الإنكار .

                          ( فإن قيل ) : إنه لم يسبق ذكر لمن آمن معه فيعود إليهم ضمير ( أخرجوهم ) .

                          ( قلنا ) : إن هذا مما يعرف بالقرينة ، وقد صرح به في آية النمل ففيها : ( أخرجوا آل لوط ) ( 27 : 56 ) بدل أخرجوهم والباقي سواء ، إلا العطف في أولها بالفاء ، كآية العنكبوت التي اختلف فيها الجواب ، وهي : ( فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين ) ( 29 : 29 ) والقرآن يفسر بعضه بعضا ، ومتى كان الكلام مفهوما كان صحيحا فصيحا وإن أشكل على جامدي النحاة وإعرابه كما سبق نظيره .

                          ( فإن قيل ) : إن في حكاية الجوابين تعارضا في المعنى محكيا بصيغة النفي والإثبات فيهما ، فكيف وقع هذا في كتاب الله تعالى وما الذي يدفع هذا التعارض ؟ ( قلنا ) : إنه لا تعارض ولا تنافي بين الجوابين ؛ لحملهما على الوقوع في وقتين . ولا شك أنه كان ينهاهم كثيرا ، فكان يسمع في كل وقت كلاما ممن حضر منهم ، وقد قلنا : إن قصص القرآن لم يقصد بها سرد حوادث التاريخ بل العبرة والموعظة ، فيذكر في كل سورة من القصة الواحدة من المعاني والمواعظ ما لا يذكر في الأخرى ، ومجموعها هو كل ما أراد الله تعالى أن يعظ به هذه الأمة . فمن المعهود أن الرسل عليهم السلام - وكذا غيرهم من الوعاظ الذين ينهون الضالين والمجرمين عن المنكر - يكررون لهم الوعظ بمعان متقاربة ، ويسمعون منهم أجوبة متشابهة ، وقد يقول بعضهم ما لا يقول غيره فيعجبهم ويقرونه عليه فيسند إليهم كلهم . كما يسند إليهم فعل الواحد منهم إذا رضوه وأقروه عليه ولو بعد فعله ، كما تقدم آنفا في إسناد عقر الناقة إلى قوم صالح وإنما عقرها واحد منهم ، وقد حكى الله تعالى من قول رسوله لوط عليه السلام لقومه في سورة العنكبوت ما لم يحكه في سورتي الأعراف والنمل ، فزاد على إتيانهم الرجال قطع السبيل ، وإتيانهم المنكر في النادي الحافل ، والمجلس الحاشد . فكأنهم ضاقوا به حينئذ ذرعا واستعجلوه العذاب الذي أنذرهم إذا أصروا على عصيانه ، والأظهر أن هذا كان بعد أمرهم بإخراجه . وأن التوعد بالإخراج كان قبل الأمر به والله أعلم .

                          ( فإن قيل ) : هذا مقبول لأن مثله معهود معروف ، ولكن ما وجه بدء جملة [ ص: 457 ] الجواب بالواو تارة وبالفاء أخرى ، وما وجه اختصاص كل منهما بموضعه ؟

                          ( قلنا ) : إن عطف الجملة على ما قبلها بكل من " الواو " و " الفاء " جائز ، إلا أن في " الفاء " زيادة معنى ؛ لأنها تفيد ربط ما بعدها بما قبلها بما يقتضي وجوب تلوه له ، فهو جماع معانيها العامة من التعقيب والسببية وجزاء الشرط ، والأصل العام في هذا الارتباط أن يكون ما بعد الفاء أثرا لفعل وقع قبله ، وكل من آيتي النمل والعنكبوت جاء بعد إسناد فعل إلى القوم ، وهو قوله في الأولى : ( بل أنتم قوم تجهلون ) ( 27 : 55 ) وفي الثانية : ( أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر ) ( 29 : 29 ) فلذلك عطف الجواب على ما بعدهما بالفاء . وأما آية الأعراف فقد جاءت بعد جملة اسمية وهي قوله : ( بل أنتم قوم مسرفون ) وإسناد صفة الإسراف إليهم فيها مقصود بالذات دون ما قبله من فعل الفاحشة الذي كان بتكراره علة لهذه الصفة ، وكان الإصرار عليه معلولا لها . وثم وجه آخر لعطف هذه بالواو مبني على ما استظهرناه من كون الأمر بإخراجه عليه السلام من بعضهم قد كان بعد الإنذار والوعيد به من آخرين منهم ، فكان بهذا في معنى المعطوف عليه - فكأنه قال : فما كان جواب قومه إلا أن قال بعضهم : لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين ، وأن قال بعضهم : أخرجوا آل لوط من قريتكم . وردده آخرون : أخرجوهم من قريتكم . وهذه الدقة في اختلاف التعبير في المواقع المتحدة أو المتشابهة لأمثال هذه النكت لا تجدها مطردة إلا في كتاب الله تعالى ، وهي من إعجازه اللفظي ولذلك يغفل عنها أكثر المفسرين . لا تجدها مطردة إلا في كتاب الله تعالى ، وهي من إعجازه اللفظي ولذلك يغفل عنها أكثر المفسرين .

                          بعد كتابة ما تقدم راجعت ( روح المعاني ) فإذا هو يقول : وإنما جيء بالواو في ( وما كان ) إلخ . دون الفاء كما في النمل والعنكبوت لوقوع الاسم قبل الفعل هنا والفعل هناك ، والتعقيب بالفعل بعد الفعل حسن دون التعقيب به بعد الاسم ، وفيه تأمل اهـ ولعمري إنه جدير بالتأمل للفظه الذي أورده به أولا ولمعناه بعد فهمه ثانيا ، فإن ظهر للمتأمل أن وجه الحسن في التعقيب ما بسطناه انتهى تعب التأمل بالقبول إن شاء الله ولم يكن عبثا ، وإلا كان حظه منه كد الذهن وإضاعة الوقت معا ، وما كتبت هذه النكتة ، إلا لأقول فيها هذه الكلمة ، وأنى بذكاء أصحاب الإيجاز المخل من المتعجبين ، وإن قل من ينتفع بعلمهم من الصابرين ، وسيقل عددهم في هذه الأمة كما قل في غيرها من الأمم التي عرفت قيمة العمر ، فضنت به أن يضيع جله في حل رموز زيد وعمرو .

                          ( فإن قيل ) : إن المعهود من أهل الرذائل أن ينكروها أو يسموها بغير اسمها ويألمون ممن يعيرهم بها لما جبل الله عليه البشر من حب الكمال وكره النقص ، فكيف علل قوم لوط [ ص: 458 ] إخراجه هو ومن آمن معه بأنهم يتطهرون ويتنزهون من أدران الفواحش ، وهو شهادة لهم بالكمال وشهادة على أنفسهم بالنقص ؟ .

                          ( فالجواب ) : ما قال الزمخشري فيه وهو أنه : سخرية بهم وبتطهرهم من الفواحش ، وافتخارهم بما كانوا فيه من القذارة ، كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم : ابعدوا عنا هذا المتقشف ، وأريحونا من هذا المتزهد اهـ . ومثله معهود من المجاهرين بالفسق ، وللنقص والرذائل دركات ، كما أن للكمال والفضائل درجات ، فأولاها أن يلم بالرذيلة وهو يشعر بقبحها ، ويلوم نفسه عليها ، ثم يتوب إلى ربه منها ، ويليها أن يعود إليها المرة بعد المرة مستترا مستخفيا ، ويليها أن يصر عليها ، حتى يزول شعوره بقبحها ، ويليها أن يجهر بها ، ويكون قدوة سيئة للمستعدين لها ، ويليها أن يفاخر بها أهلها ، ويحتقر من يتنزهون عنها ، وهذه أسفل الدركات ، وهي درجة قوم لوط ، ولا يهبط إليها ولا بسف من يؤمن بالله واليوم الآخر ، بل وصف الله المؤمنين بأنهم إذا عملوا السيئات يعملونها بجهالة ثم يتوبون من قريب ، وأنهم لا يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون .

                          ( فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ) أي فأنجيناه وأهل بيته الذين آمنوا معه ، ولذلك استثنى منهم امرأته فإنها لم تؤمن به ، بل خانته بولاية قومه الكافرين الفاسقين عليه ، فكانت من جماعة الغابرين أي الهالكين ، أو الباقين الذين نزل بهم العذاب في الدنيا ويليه عذاب الآخرة . يقال : غبر بمعنى بقى وبمعنى مضى وذهب وهلك . ومن قال من المفسرين إن أهله هم الذين آمنوا به سواء كانوا من ذوي قرابته أم لا ، فقد غفل عن قوله تعالى في سورة الذاريات : ( فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ) ( 51 : 35 ، 36 ) . ( وأمطرنا عليهم مطرا ) أي أرسلنا عليهم مطرا عجيبا أمره ، وهو الحجارة التي رجموا بها . قال الزمخشري في الكشاف : الفرق بين مطر وأمطر أن معنى مطرتهم السماء أصابتهم بالمطر ، كقولهم غاثتهم ووبلتهم وجادتهم ورهمتهم . ويقال : أمطرت عليهم كذا - بمعنى أرسلته عليهم إرسال المطر اهـ . وعن بعض أئمة اللغة أن مطر وأمطر بمعنى واحد كما في الصحاح . وقال آخرون : إن " مطر " لا يستعمل إلا في الرحمة و " أمطر " لا يستعمل إلا في العذاب . نقل هذا عن أبي عبيدة وتبعه الراغب والفيروزابادي في القاموس ، والتحقيق أنه يقال : مطرتهم السماء وأمطرتهم ، وسماء ماطرة وممطرة - قاله الزمخشري في حقيقة المادة من أساس البلاغة ، ثم قال : ومن المجاز أمطر الله عليهم الحجارة اهـ . فالأمطار حقيقة في [ ص: 459 ] المطر مجاز فيما يشبهه في الكثرة من خير وشر حسيين أو معنويين مما يجيء من السماء أو من الأرض . وما قال من قال : إنه خاص بالشر ، إلا من تكرر الآيات في إرسال الحجارة على قوم لوط ، وقوله تعالى حكاية عن بعض كفار قريش : ( وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) ( 8 : 32 ) وغفلوا عن قوله في سورة الأحقاف : ( فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا ) ( 46 : 24 ) .

                          نحن نؤمن بهذه الآية كما وردت في سور القرآن ولا نقول في حقيقتها وصفتها قولا جازما ، ولكن يجوز عقلا أن يكون سبب إمطار الحجارة على قوم لوط إرسال إعصار من الريح حملتها وألقتها عليهم ومثل هذا معهود ، وقد أخبرنا بعض أهل ساحل البحر أن السماء أمطرت عليهم مرة طينا ومرة سمكا - أي مع المطر - وسألوا : من أين جاء ذلك ؟ فقلنا : أما التراب فأثارته السافياء من الريح فحملته إلى السحاب فنزل مع المطر طينا ، وأما السمك فهذا الإعصار الذي يرى متدليا من السحاب إلى البحر أو مرتفعا من البحر إلى السحاب كعمود من الدخان وتسمونه التنين ، هو الذي يرفع الماء من البحر إلى السحاب ، فاتفق أن كان فيما رفعه سمك حملته الريح إليكم لقربكم من البحر .

                          ويحتمل أن تكون تلك الحجارة من بعض النجوم المحطمة التي يسميها الفلكيون الحجارة النيزكية ، وهي بقايا كوكب محطم تجذبه الأرض إليها إذا صارت بالقرب منها ، وهي تحترق غالبا من سرعة الجذب وشدته وهي الشهب التي ترى في الليل ، فإذا سلم منها شيء من الاحتراق ووصل إلى الأرض ساخ فيها ، وكان لسقوطه صوت شديد ، وقد اهتدى الناس إلى بعض هذه الحجارة ووضعوها في المتاحف ، ولم يعهد أن تكون كثيرة ، والآيات تخالف المعهود وتخترق المعتاد وإن كانت موافقة لسنن خفية في الكون بفعل الله عز وجل . وفي سورتي هود والحجر أنها حجارة من سجيل مسومة . واختلف رواة التفسير في تفسير السجيل ، قال مجاهد : هو بالفارسية أولها حجارة وآخرها طين ، وفي قوله : ( مسومة ) ( 11 : 83 ) قال : معلمة . ومثله عن شيخه ابن عباس رضي الله عنه قال : حجارة فيها طين ، وقال : السوم بياض في حمرة ، وقال الراغب : والسجيل حجر وطين مختلط وأصله فيما قيل فارسي معرب اهـ . وهذا يرجح الوجه الأول ، وهو كون تلك الحجارة من الأرض وقلعتها الأعاصير من أرض رطبة من المطر أو غيره ، وحجارة النيازك لا تكون إلا جافة ، بل تسقط حامية من شدة الجذب ثم تبرد . وقال الأستاذ الإمام في تفسير سورة الفيل : السجيل طين متحجر . والصواب الأول ، وأنه فارسي الأصل . وسنعود إلى هذا البحث في تفسير سورة هود إن شاء الله تعالى ، وفيها أن الله تعالى جعل عالي تلك القرى سافلها ، ونبين أن وقوع هذا وذاك بالسنن الإلهية الجلية أو الخفية لا ينافي كونها آية . [ ص: 460 ] ( فانظر كيف كان عاقبة المجرمين ) الخطاب لكل من يسمع القصة أو يقرؤها من أهل النظر والاعتبار ، والمراد : أن يعلم أن عاقبة القوم المجرمين لا تكون إلا وبالا وعقابا ، فإن الأمم تعاقب على ذنوبها في الدنيا قبل الآخرة باطراد . وقد بينا من قبل أن عقابها إما أن يكون أثرا طبيعيا للذنب كالترف والسرف في الفسق يفسد أخلاق الأمة ويذهب ببأسها ، أو يجعله بينها شديدا بتفرق كلمتها واختلاف أحزابها وتعاديهم ، فيترتب على ذلك تسلط أمة أخرى عليها تستذلها بسلب استقلالها ، وتسخيرها في منافعها ، حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين بذهاب مقوماتها ومشخصاتها ، أو اندغامها في الأمة الغالبة أو انقراضها ، وإما أن يكون بما يحدث بسنن الله تعالى في الأرض من الجوائح الطبيعية كالزلازل والخسف وإمطار النار والمواد المصطهرة التي تقذفها البراكين من الأرض والأوبئة - أو الانقلابات الاجتماعية كالحروب والثورات والفتن . وهنالك نوع ثالث وهو ما كان من آيات الرسل عليهم الصلاة والسلام وقد انقضى زمانه بختمهم بنبي الرحمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم . راجع تفسير ( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ) ( 6 : 65 ) [ ص408 وما بعدها ج 7 ط الهيئة ] .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية