الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وأما ) الذي يرجع إلى المحلوف عليه فهو أن يكون متصور الوجود حقيقة عند الحلف هو شرط انعقاد اليمين على أمر في المستقبل وبقاؤها أيضا متصور الوجود حقيقة بعد اليمين شرط بقاء اليمين حتى لا ينعقد اليمين على ما هو مستحيل الوجود حقيقة ولا يبقى إذا صار بحال يستحيل وجوده ، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد وزفر وعند أبي يوسف هذا ليس بشرط لانعقاد اليمين ولا لبقائها وإنما الشرط أن تكون اليمين على أمر في المستقبل وأما كونه متصور الوجود عادة فهل هو شرط انعقاد اليمين ؟ .

                                                                                                                                قال أصحابنا الثلاثة : ليس بشرط فينعقد على ما يستحيل وجوده عادة بعد أن كان لا يستحيل وجوده حقيقة .

                                                                                                                                وقال زفر : هو شرط لا تنعقد اليمين بدونه وبيان هذه الجملة إذا قال : والله لأشربن الماء الذي في هذا الكوز فإذا لا ماء فيه لم تنعقد اليمين في قول أبي حنيفة ومحمد وزفر لعدم شرط الانعقاد وهو تصور شرب الماء الذي حلف عليه وعند أبي يوسف تنعقد لوجود الشرط وهو الإضافة إلى أمر في المستقبل وإن كان يعلم أنه لا ماء فيه تنعقد عند أصحابنا الثلاثة وعند زفر لا تنعقد وهو رواية عن أبي حنيفة أنه لا تنعقد علم أو لم يعلم وعلى هذا الخلاف إذا وقت وقال والله لأشربن الماء الذي في هذا الكوز اليوم ولا ماء في الكوز أنه لا تنعقد عند أبي حنيفة ومحمد وزفر وعند أبي يوسف تنعقد وعلى هذا الخلاف إذا قال والله لأقتلن فلانا وفلان ميت وهو لا يعلم بموته أنه لا تنعقد عندهم خلافا لأبي يوسف وإن كان عالما بموته تنعقد عندهم خلافا لزفر .

                                                                                                                                ولو قال والله لأمسن السماء أو لأصعدن السماء أو لأحولن هذا الحجر ذهبا تنعقد عند أصحابنا الثلاثة ، وعند زفر لا تنعقد ، أما الكلام مع أبي يوسف فوجه قوله : إن الحالف جعل شرط عدم حنثه القتل والشرب في المطلق وفي الموقت عدم الشرب في المدة وقد تأكد العدم فتأكد شرط الحنث فيحنث كما في قوله والله لأمسن السماء أو لأحولن هذا الحجر ذهبا ولهما أن اليمين تنعقد للبر ; لأن البر هو موجب اليمين وهو المقصود الأصلي من اليمين أيضا ; لأن الحالف بالله تعالى يقصد بيمينه تحقيق البر والوفاء بما عهد وإنجاز ما وعد ثم [ ص: 12 ] الكفارة تجب لدفع الذنب الحاصل بتفويت البر وهو الحنث فإذا لم يكن البر متصور الوجود حقيقة لا يتصور الحنث فلم يكن في انعقاد اليمين فائدة فلا تنعقد والدليل على أن البر غير متصور الوجود من هذه اليمين حقيقة أنه إذا كان عنده أن في الكوز ماء وأن الشخص حي فيمينه تقع على الماء الذي كان فيه وقت اليمين وعلى إزالة حياة قائمة وقت اليمين والله تعالى وإن كان قادرا على خلق الماء في الكوز ولكن هذا المخلوق لا يكون ذلك الماء الذي وقعت يمينه عليه وفي مسألة القتل زالت تلك الحياة على وجه لا يتصور عودها بخلاف ما إذا كان عالما بذلك ; لأنه إذا كان عالما به فإنما انعقد يمينه على ماء آخر يخلقه الله - تعالى - وعلى حياة أخرى يحدثها الله تعالى إلا أن ذلك على نقض العادة فكان العجز عن تحقيق البر ثابتا عادة فيحنث بخلاف قوله والله لأمسن السماء ونحوه لأن - هناك - البر متصور الوجود في نفسه حقيقة بأن يقدره الله تعالى على ذلك كما أقدر الملائكة وغيرهم من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - إلا أنه عاجز عن ذلك عادة فلتصور وجوده حقيقة انعقدت وللعجز عن تحقيقه عادة حنث ووجبت الكفارة وأما الكلام مع زفر في اليمين على مس السماء ونحوه فهو يقول المستحيل عادة يلحق بالمستحيل حقيقة وفي المستحيل حقيقة لا تنعقد كذا في المستحيل عادة ، ولنا أن اعتبار الحقيقة والعادة واجب ما أمكن وفيما قلناه اعتبار الحقيقة والعادة جميعا وفيما قاله اعتبار العادة وإهدار الحقيقة فكان ما قلناه أولى ولو قال والله لأمسن السماء اليوم يحنث في آخر اليوم عند أبي حنيفة ومحمد وفي قياس قول أبي يوسف أنه يحنث في الحال وقد روي عن أبي يوسف ما يدل عليه فإنه قال في رجل حلف ليشربن ماء دجلة كله اليوم قال أبو حنيفة لا يحنث حتى يمضي اليوم .

                                                                                                                                وقال أبو يوسف يحنث الساعة فإن قال في يمينه غدا لم يحنث حتى يمضي اليوم في قول أبي حنيفة لأن الانعقاد يتعلق بآخر اليوم عنده .

                                                                                                                                فأما أبو يوسف فقال يحنث في أول جزء من أجزاء الغد لأن شرط البر غير منتظر فكأنه قال لها أنت طالق في غد - والله - عز وجل - أعلم - هذا إذا لم يكن المحلوف عليه متصور الوجود حقيقة أو عادة وقت اليمين حتى انعقدت اليمين بلا خلاف ثم فات فالحلف لا يخلو إما أن يكون مطلقا عن الوقت وإما أن يكون موقتا بوقت وكل ذلك لا يخلو إما أن يكون في الإثبات أو في النفي فإن كان مطلقا في الإثبات بأن قال والله لآكلن هذا الرغيف أو لأشربن الماء الذي في هذا الكوز أو لأدخلن هذه الدار أو لآتين البصرة فما دام الحالف والمحلوف عليه قائمين لا يحنث لأن الحنث في اليمين المطلقة يتعلق بفوات البر في جميع البر فما داما قائمين لا يقع اليأس عن تحقيق البر فلا يحنث فإذا هلك أحدهما يحنث لوقوع العجز عن تحقيقه غير أنه إذا هلك المحلوف عليه يحنث وقت هلاكه وإذا هلك الحالف يحنث في آخر جزء من أجزاء حياته لأن الحنث في الحالين بفوات البر .

                                                                                                                                ووقت فوات البر في هلاك المحلوف عليه وقت هلاكه ، وفي هلاك الحالف آخر جزء من أجزاء حياته وإن كان في النفي بأن قال والله لا آكل هذا الرغيف أو لا أشرب الماء الذي في هذا الكوز فلم يأكل ولم يشرب الماء حتى هلك أحدهما فقد بر في يمينه لوجود شرط البر وهو عدم الأكل والشرب ، وإن كان موقتا بوقت فالوقت نوعان موقت نصا وموقت دلالة أما الموقت نصا فإن كان في الإثبات بأن قال والله لآكلن هذا الرغيف اليوم أو لأشربن هذا الماء الذي في هذا الكوز اليوم أو لأدخلن هذه الدار ونحو ذلك فما دام الحالف والمحلوف عليه قائمين والوقت قائما لا يحنث لأن البر في الوقت مرجو فتبقى اليمين وإن كان الحالف والمحلوف عليه قائمين ومضى الوقت يحنث في قولهم جميعا لأن اليمين كانت مؤقتة بوقت فإذا لم يفعل المحلوف عليه حتى مضى الوقت وقع اليأس عن فعله في الوقت ففات البر عن الوقت فيحنث .

                                                                                                                                وإن هلك الحالف في الوقت والمحلوف عليه قائم فمضى الوقت لا يحنث بالإجماع لأن الحنث في اليمين المؤقتة بوقت يقع في آخر أجزاء الوقت وهو ميت في ذلك الوقت والميت لا يوصف بالحنث وإن هلك المحلوف عليه والحالف قائم والوقت باق فيبطل اليمين في قول أبي حنيفة ومحمد وزفر وعند أبي يوسف لا تبطل ويحنث واختلفت الرواية عنه في وقت الحنث أنه يحنث للحال أو عند غروب الشمس روي عنه أنه يحنث عند غروب الشمس وروي عنه أنه يحنث للحال ، قيل : وهو الصحيح من مذهبه وإن كان [ ص: 13 ] في النفي فمضى الوقت والحالف والمحلوف عليه قائمان فقد بر في يمينه لوجود شرط البر وكذلك إن هلك الحالف والمحلوف عليه في الوقت لما قلنا وإن فعل المحلوف عليه في الوقت حنث لوجود شرط الحنث وهو الفعل في الوقت والله - عز وجل - أعلم .

                                                                                                                                ( وأما ) الموقت دلالة فهو المسمى يمين الفور وأول من اهتدى إلى جوابها أبو حنيفة ثم كل من سمعه استحسنه وما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن وهو أن يكون اليمين مطلقا عن الوقت نصا ، ودلالة الحال تدل على تقييد الشرط بالفور بأن خرج جوابا لكلام أو بناء على أمر نحو أن يقول لآخر : تعال تغد معي ، فقال : والله لا أتغدى فلم يتغد معه ثم رجع إلى منزله فتغدى لا يحنث استحسانا والقياس أن يحنث وهو قول زفر وجه القياس أنه منع نفسه عن التغدي عاما فصرفه إلى البعض دون البعض تخصيص للعموم .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن كلامه خرج جوابا للسؤال فينصرف إلى ما وقع السؤال عنه والسؤال وقع عن الغداء المدعو إليه فينصرف الجواب إليه كأنه أعاد السؤال .

                                                                                                                                وقال والله لا أتغدى الغداء الذي دعوتني إليه وكذا إذا قامت امرأته لتخرج من الدار فقال لها إن خرجت فأنت طالق فقعدت ثم خرجت بعد ذلك لا يحنث استحسانا لأن دلالة الحال تدل على التقييد بتلك الخرجة كأنه قال إن خرجت هذه الخرجة فأنت طالق ولو قال لها إن خرجت من هذه الدار على الفور أو في هذا اليوم فأنت طالق بطل اعتبار الفور لأنه ذكر ما يدل على أنه ما أراد به الخرجة المقصود إليها وإنما أراد الخروج المطلق عن الدار في اليوم حيث زاد على قدر الجواب وعلى هذا يخرج ما إذا قيل له إنك تغتسل الليلة في هذه الدار من جنابة فقال إن اغتسلت فعبدي حر ثم اغتسل لا عن جنابة ثم قال : عنيت به الاغتسال عن جنابة أنه يصدق لأنه أخرج الكلام مخرج الجواب ولم يأت بما يدل على إعراضه عن الجواب فيقيد بالكلام السابق ويجعل كأنه إعادة .

                                                                                                                                ولو قال إن اغتسلت فيها الليلة عن جنابة فأنت حر أو قال إن اغتسلت الليلة في هذه الدار فعبدي حر ثم قال عنيت الاغتسال عن جنابة لا يصدق في القضاء لأنه زاد على القدر المحتاج إليه من الجواب حيث أتى بكلام مفيد مستقل بنفسه فخرج عن حد الجواب وصار كلاما مبتدأ فلا يصدق في القضاء لكن يصدق فيما بينه وبين الله تعالى لأنه يحتمل أنه أراد به الجواب ومع هذا زاد على قدره وهذا وإن كان بخلاف الظاهر لكن كلامه يحتمله في الجملة وعلى هذا يخرج ما قاله ابن سماعة : سمعت محمدا يقول في رجل قال لآخر إن ضربتني ولم أضربك وما أشبه ذلك فهذا على الفور قال وقوله : " لم " يكون على وجهين على قبل وعلى بعد فإن كانت على بعد فهي على الفور ولو قال إن كلمتني فلم أجبك فهذا على بعد وهو على الفور وإن قال إن ضربتني ولم أضربك فهو عندنا على أن يضرب الحالف قبل أن يضرب المحلوف عليه فإن أراد به بعد ونوى ذلك فهو على الفور وهكذا روي عن محمد وجملة هذا أن هذه اللفظة قد تدخل على الفعل الماضي وقد تدخل على المستقبل فما كان معاني كلام الناس عليه حمل عند الإطلاق عليه وإن كانت مستعملة في الوجهين على السواء يتميز أحدهما بالنية فإذا قال إن ضربتني ولم أضربك فقد حمله محمد على الماضي كأنه رأى معاني كلام الناس عليه عند الإطلاق فكأنه قال إن ضربتني من غير مجازاة لما كان مني من الضرب فعبدي حر ويحتمل الاستقبال أيضا فإذا نواه حمل عليه .

                                                                                                                                وقوله إن كلمتني ولم أجبك فهذا على المستقبل لأن الجواب لا يتقدم الكلام فحمل على الاستقبال ويكون على الفور لأنه يراد به الفور عادة .

                                                                                                                                وروي عن محمد فيمن قال كل جارية يشتريها فلا يطؤها فهي حرة قال هذا يطؤها ساعة يشتريها فإن لم يفعل فهي حرة لأن الفاء تقتضي التعقيب ولو قال مكان هذا إن لم يطأها فهذا على ما بينه وبين الموت فمتى وطئها بر لأن كلمة إن كلمة شرط فلا تقتضي التعجيل قال هشام عن أبي يوسف فإن قال لغلامه إن لم تأتني حتى أضربك فأنت حر فجاء من ساعته فلم يضربه قال متى ما ضربه فإنه يبر في يمينه ولا يعتق إلا أن ينوي ساعة أمره بذلك لما ذكرنا أن إن للشرط فلا تقتضي التعجيل إذا لم يكن في الكلام ما يدل عليه ولو قال إن لم أشتر اليوم عبدا فأعتقه فعلي كذا فاشترى عبدا فوهبه ثم اشترى آخر فأعتقه قال محمد إنما وقعت يمينه على العبد الأول فإذا أمسى ولم يعتقه حنث لأن تقدير كلامه إن اشتريت عبدا فعلي عتقه فإن لم أعتقه فعلي حجة وهذا قد استحقه الأول فلم يدخل الثاني في اليمين .

                                                                                                                                قال [ ص: 14 ] هشام عن محمد فيمن قال لآخر إن مت ولم أضربك فكل مملوك لي حر فمات الحالف ولم يضربه قال محمد لا يعتقون لأن من شرط الحنث أن يكون بعد الموت ولا ملك له في ذلك الوقت فلا يعتقون وإن قال إن لم أضربك فكل مملوك لي حر لا يحنث حتى يخرج نفسه فيحنث قبل خروج نفسه يعني في آخر جزء من أجزاء حياته فيعتقون حينئذ لأن شرط الحنث ترك الضرب وإنه يتحقق في تلك الحالة ولو قال إن لم أدخل هذه الدار حتى أموت فغلامه حر فلم يدخلها حتى مات لم يعتق وكذلك قال محمد فيمن قال إن لم أضربك فيما بيني وبين أن أموت فعبدي حر فلم يضربه حتى مات عتق العبد قبل أن يموت لأن في الأول حنث بعد الموت .

                                                                                                                                وقال محمد في الزيادات فيمن قال لرجل امرأته طالق إن لم تخبر فلانا بما صنعت حتى يضربك فعبدي حر فأخبره فلم يضربه بر في يمينه لأنه جعل شرط البر الإخبار لأنه سبب صالح للضرب جزاء له على صنعه والإخبار مما لا يمتد ولا يضرب له المدة فتعذر جعله للغاية فجعل للجزاء وقوله حتى يضربك بيان الغرض بمعنى ليضربك فيصير معناه إن لم أتسبب لضربك فإذا أخبر بصنيعه فقد سبب لضربه فبر في يمينه وكذلك إذا قال إن لم آتك حتى تغديني أو إن لم أضربك حتى تضربني فعبدي حر فأتاه فلم يغده أو ضربه ولم يضربه بر في يمينه لأن التغدية لا تصلح غاية للإتيان لكونها داعية إلى زيادة الإتيان وكذلك الضرب يدعو إلى زيادة الضرب لا إلى تركه وإنهائه فلا يجعل غاية ويجعل جزاء لوجود شرطه ولو قال إن لم ألزمك حتى تقضيني حقي أو إن لم أضربك حتى يدخل الليل أو حتى تشتكي يدي أو حتى تصيح أو حتى يشفع لك فلان أو حتى ينهاني فلان فترك الملازمة قبل أن يقضى حقه أو ترك الضرب قبل وجود هذه الأسباب حنث لأن كلمة حتى ههنا للغاية إذ المعقود عليه فعل ممتد وهو الملازمة والضرب في قضاء الدين مؤثر في إنهاء الملازمة إذ هو المقصود من الملازمة ، والشفاعة والصياح والنهي وغيرها مؤثر في ترك الضرب وإنهائه فصارت للغاية لوجود شرطها .

                                                                                                                                ولو نوى به الجزاء يصدق فيما بينه وبين الله تعالى لأنه نوى ما يحتمله كلامه ، ولا يصدق في القضاء لأنه أراد به التخفيف على نفسه فكان متهما ، وإن قال إن لم آتك اليوم حتى أتغدى عندك أو إن لم آتك حتى أضربك فعبدي حر فأتاه فلم يتغد عنده أو لم يضربه حتى مضى اليوم حنث لأن كلمة حتى ههنا للعطف لأن الفعلين جميعا من جانب واحد وهو الحالف فيصير كأنه قال إن لم آتك اليوم فأضربك أو فأتغدى عندك فإن لم يوجدا جميعا لا يبر بخلاف قوله حتى تغديني لأن هناك أحد الفعلين من غيره فكان عوض فعله فلا يحنث بعدمه وإن لم يوقت باليوم فأتاه ولم يتغد لم يحنث لأن البر موجود بأن يأتيه ويتغدى أو يتغدى من غير إتيان ووقت البر متسع فلا يحنث كما لو صرح به .

                                                                                                                                وقال إن لم آتك فأتغدى عندك ولو قال ذلك لا يحنث ما دام حيا كذلك هذا وحكى هشام عن أبي يوسف أن من قال لأمته إن تجيئيني الليلة حتى أجامعك مرتين فأنت حرة فجاءته فجامعها مرة وأصبح حنث في يمينه وهذا وقوله إن لم تجيئيني الليلة فأجامعك مرتين سواء فيصير المجيء والمجامعة مرتين شرطا للبر فإذا انعدم يحنث فإن لم يوقت بالليل لا يحنث وله أن يجامعها في أي وقت شاء لأن وقت البر يتسع عند عدم التوقيت وقال ابن سماعة عن محمد إذا قال إن ركبت دابتك فلم أعطك دابتي فعبدي حر قال هذا على الفور إذا ركب دابته فينبغي أن يعطيه دابة نفسه ساعتئذ وكذلك إذا قال إن دخلت دارك فلم أجلس فيها لأن الفاء للتعقيب فيقتضي وجود ما دخلت عليه عقيب الشرط قال ولو قال إن رأيت فلانا فلم آتك به فعبدي حر فرآه أول ما رآه مع الرجل الذي قال له إن رأيته فلم آتك به فإن الحالف حانث الساعة لأن يمينه وقعت على أول رؤية ويستحيل أن يأتيه بمن هو معه قال القدوري وقد كان يجب أن لا يحنث عند أبي حنيفة ومحمد كما قالا فيمن قال له إن رأيت فلانا فلم أعلمك بذلك فعبدي حر فرآه أول ما رآه مع الرجل الذي قال له ذلك لم يحنث عند أبي حنيفة ومحمد لأن العلم بمن قد علمه محال .

                                                                                                                                وكذلك الإتيان بمن معه فيصير كمن قال لأشربن الماء الذي في هذا الكوز ولا ماء فيه ولو أن رجلا قال إن لقيتك فلم أسلم عليك فإن سلم عليه ساعة يلقاه وإلا حنث وكذلك إن قال إن استعرت دابتك فلم تعرني لأن هذا على المجازاة يدا بيد وليس هذا مثل قوله إن دخلت الدار فإن لم أكلم فلانا فهذا متى ما كلمه بر والأصل فيه أن يجيء في هذا الباب [ ص: 15 ] أمور تشتبه فإن لم في معنى فلم يحمل على معظم معاني كلام الناس ولو قال إن أتيتني فلم آتك أو إن زرتني فلم أزرك أو إن أكرمتني فلم أكرمك فهذا على الأبد وهو في هذا الوجه مثل فإن لم لأن الزيارة لا تتعقب الزيارة عادة فكان المقصود هو الفعل فإن قيل أتيتني فلم آتك فالأمر في هذا مشتبه قد يكون بمعنى إن لم آتك قبل إتيانك وقد يكون بمعنى إن لم آتك بعد إتيانك فكان محتملا للأمرين فيحمل على ما كان الغالب من معاني كلام الناس عليه فإن لم يكن فهو على ما نوى أي ذلك نوى من قبل أو بعد حملا على ما نوى وإن لم تكن له نية يلحق بالمشتبه الذي لا يعرف له معنى .

                                                                                                                                فأما الذي يعرف من معناه أنه قبل أو بعد فهو على الذي يعرف في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى إذا لم يكن له نية فإن نوى خلاف ما يعرف لم يدين في الحكم ودين فيما بينه وبين الله تعالى فالذي الظاهر منه قبل كقوله إن خرجت من باب الدار ولم أضربك والذي ظاهره بعد مثل قوله إن أعطيتني كذا ولم أكافئك بمثله والمحتمل كقوله إن كلمتك ولم تكلمني فهذا يحتمل قبل وبعد فأيهما فعل لم يكن للحالف فيه وإن كان نوى أحد الفعلين فهو على ما نوى وإن كان قبل ذلك فنطق يكون هذا جوابا له فهو على الجواب والله - عز وجل - الموفق .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية