الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر ملك قباذ بن فيروز بن يزدجرد

وكان قباذ قبل أن يصير الملك إليه ، قد سار إلى خاقان مستنصرا به على أخيه بلاش ، فمر في طريقه بحدود نيسابور ومعه جماعة من أصحابه متنكرين ، وفيهم زرمهر بن سوخرا ، فتاقت نفسه إلى النكاح ، فشكا ذلك إلى زرمهر وطلب منه امرأة ، فسار إلى امرأة صاحب المنزل ، وكان من الأساورة ، وكان لها بنت حسناء ، فخطبها منها وأطمعها وزوجها ، فزوجا قباذ بها ، فدخل بها من ليلته ، فحملت بأنوشروان ، وأمر لها بجائزة سنية وردها ، وسألتها أمها عن قباذ وحاله . فذكرت أنها لا تعرف من حاله شيئا غير أن سراويله منسوجة بالذهب ، فعلمت أنه من أبناء الملوك .

ومضى قباذ إلى خاقان واستنصره على أخيه ، فأقام عنده أربع سنين وهو يعده ، ثم أرسل معه جيشا . فلما صار بالقرب من الناحية التي بها زوجته سأل عنها فأحضرت ومعها أنوشروان وأعلمته أنه ابنه . وورد الخبر بذلك المكان أن أخاه بلاش قد هلك ، فتيمن بالمولود وحمله وأمه على مراكب نساء الملوك واستوثق له الملك وخص سوخرا وشكر لولده خدمته . وتولى سوخرا الأمر ، فمال الناس إليه وتهاونوا بقباذ ، فلم يحتمل ذلك . فكتب إلى سابور الرازي ، وهو أصبهبذ ديار الجبل ، ويقال للبيت الذي هو منه مهران ، فاستقدمه ومعه جنده ، فتقدم إليه فأعلمه عزمه على قتل سوخرا وأمره بكتمان ذلك ، فأتاه يوما سابور وسوخرا عند قباذ فألقى في عنقه وهقا ، وأخذه وحبسه ثم خنقه قباذ وأرسله إلى أهله وقدم عوضه سابور الرازي .

[ ص: 377 ] وفي أيامه ظهر مزدك ، وابتدع ووافق زرادشت في بعض ما جاء به ، وزاد ونقص ، وزعم أنه يدعو إلى شريعة إبراهيم الخليل حسب ما دعا إليه زرادشت ، واستحل المحارم والمنكرات ، وسوى بين الناس في الأموال والنساء والعبيد والإماء ; حتى لا يكون لأحد على أحد فضل في شيء البتة ، فكثر أتباعه من السفلة والأغتام ، فصاروا عشرات ألوف ، فكان مزدك يأخذ امرأة هذا فيسلمها إلى الآخر ، وكذا في الأموال والعبيد والإماء وغيرها من الضياع والعقار ، فاستولى وعظم شأنه وتبعه الملك قباذ . فقال يوما لقباذ : اليوم نوبتي من امرأتك أم أنوشروان . فأجابه إلى ذلك ، فقام أنوشروان إليه ونزع خفيه بيده وقبل رجليه وشفع إليه حتى لا يتعرض لأمه ، وله حكمه في سائر ملكه ، فتركها .

وحرم ذباحة الحيوان وقال : يكفي في طعام الإنسان ما تنبته الأرض وما يتولد من الحيوان كالبيض واللبن والسمن والجبن ، فعظمت البلية به على الناس فصار الرجل لا يعرف ولده والولد لا يعرف أباه .

فلما مضى عشر سنين من ملك قباذ ، اجتمع موبذان موبذ والعظماء وخلعوه وملكوا عليه أخاه جامسب وقالوا له : إنك قد أثمت باتباعك مزدك وبما عمل أصحابه بالناس ، وليس ينجيك إلا إباحة نفسك ونسائك ، وأرادوه على أن يسلم نفسه إليهم ليذبحوه ويقربوه إلى النار ، فامتنع من ذلك ، فحبسوه وتركوه لا يصل إلى أحد . فخرج زرمهر بن سوخرا ، فقتل من المزدكية خلقا ، وأعاد قباذ إلى ملكه وأزال أخاه جامسب . ثم إن قباذ قتل بعد ذلك زرمهر .

وقيل : لما حبس قباذ وتولى أخوه دخلت أخت لقباذ عليه كأنها تزوره ، ثم لفته في بساط وحمله غلام ، فلما خرج من السجن سأله السجان عما معه ، فقالت : هو موحل كنت أحيض فيه ، فلم يمس البساط ، فمضى الغلام بقباذ ، وهرب قباذ فلحق بملك الهياطلة يستجيشه ، فلما صار بإيران شهر ، وهي نيسابور ، نزل برجل من أهلها ، له ابنة بكر حسنة جميلة فنكحها ، وهي أم كسرى أنوشروان ، فكان نكاحه إياها في هذه السفرة لا في تلك ، في قول بعضهم ، وعاد أنوشروان فغلب أخاه جامسب على الملك ، وكان ملك جامسب على ست سنين .

[ ص: 378 ] وغزا قباذ بعد ذلك الروم ، ففتح مدينة آمد ، وبنى مدينة أرجان ومدينة حلوان ومات ، فملك ابنه كسرى أنوشروان بعده ، فكان ملك قباذ مع سني أخيه جامسب ثلاثا وأربعين سنة ، فتولى أنوشروان ما كان أبوه أمر له به .

وفي أيامه خرجت الخزر فأغارت على بلاده ، فبلغت الدينور ، فوجه قباذ قائدا من عظماء قواده في اثني عشر ألفا ، فوطئ بلاد أران ، وفتح ما بين النهر المعروف بالرس إلى شروان ، ثم إن قباذ لحق به ، فبنى بأران مدينة البيلقان ومدينة برذعة ، وهي مدينة الثغر كله ، وغيرهما ، وبقي الخزر ، ثم بنى سدا للان فيما بين أرض شروان وباب اللان ، وبنى على السد مدنا كثيرة خربت بعد بناء الباب والأبواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية