الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين

                                                                                                                                                                                                                                      أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام أي: في الفضيلة وعلو الدرجة كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله السقاية والعمارة مصدران لا يتصور تشبيههما بالأعيان، فلا بد من تقدير مضاف في أحد [ ص: 52 ] الجانبين، أي: أجعلتم أهلهما كمن آمن بالله... إلخ؟ ويؤيده قراءة من قرأ (سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام) أو (أجعلتموها كإيمان من آمن)... إلخ.

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى التقديرين فالخطاب إما للمشركين على طريقة الالتفات، وهو المتبادر من تخصيص ذكر الإيمان بجانب المشبه به، وإما لبعض المؤمنين المؤثرين للسقاية والعمارة ونحوهما على الهجرة والجهاد ونظائرهما، وهو المناسب للاكتفاء في الرد عليهم ببيان عدم مساواتهم عند الله للفريق الثاني، وبيان أعظمية درجتهم عند الله تعالى على وجه يشعر بعدم حرمان الأولين بالكلية، وجعل معنى التفضيل بالنسبة إلى زعم الكفرة لا يجدي كثير نفع؛ لأنه إن لم يشعر بعدم الحرمان فليس بمشعر بالحرمان أيضا، أما على الأول فهو توبيخ للمشركين، ومداره على إنكار تشبيه أنفسهم - من حيث اتصافهم بوصفيهم المذكورين مع قطع النظر عما هم عليه من الشرك - بالمؤمنين من حيث اتصافهم بالإيمان والجهاد، أو على إنكار تشبيه وصفيهم المذكورين في حد ذاتهما مع الإغماض عن مقارنتهما للشرك بالإيمان والجهاد، وأما اعتبار مقارنتهما له - كما قيل - فيأباه المقام، كيف لا وقد بين آنفا حبوط أعمالهم بذلك الاعتبار بالمرة؟! وكونها بمنزلة العدم، فتوبيخهم بعد ذلك على تشبيههما بالإيمان والجهاد، ثم رد ذلك بما يشعر بعدم حرمانهم عن أصل الفضيلة بالكلية - كما أشير إليه - مما لا يساعده النظم التنزيلي، ولو اعتبر ذلك لما احتيج إلى تقرير إنكار التشبيه وتأكيده بشيء آخر، إذ لا شيء أظهر بطلانا من تشبيه المعدوم بالموجود.

                                                                                                                                                                                                                                      فالمعنى: أجعلتم أهل السقاية والعمارة في الفضيلة كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيله، أو أجعلتموهما في ذلك كالإيمان والجهاد وشتان بينهما، فإن السقاية والعمارة - وإن كانتا في أنفسهما من أعمال البر والخير - لكنهما - وإن خلتا عن القوادح - بمعزل عن صلاحية أن يشبه أهلهما بأهل الإيمان والجهاد، أو يشبه نفسهما بنفس الإيمان والجهاد، وذلك قوله عز وجل: لا يستوون عند الله أي: لا يساوي الفريق الأول الثاني من حيث اتصاف كل منهما بوصفيهما، ومن ضرورته عدم التساوي بين الوصفين الأولين وبين الآخرين؛ لأنه المدار في التفاوت بين الموصوفين، وإسناد عدم الاستواء إلى الموصوفين؛ لأن الأهم بيان تفاوتهم، وتوجيه النفي ههنا والإنكار فيما سلف إلى الاستواء والتشبيه - مع أن دعوى المفتخرين بالسقاية والعمارة من المشركين والمؤمنين إنما هي الأفضلية دون التساوي والتشابه - للمبالغة في الرد عليهم، فإن نفي التساوي والتشابه نفي للأفضلية بالطريق الأولى، والجملة استئناف لتقرير الإنكار المذكور وتأكيده، أو حال من مفعولي الجعل، والرابط هو الضمير، كأنه قيل: أسويتم بينهم حال كونهم متفاوتين عنده تعالى؟!

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: والله لا يهدي القوم الظالمين حكم عليهم بأنهم مع ظلمهم بالإشراك ومعاداة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ضالون في هذا الجعل، غير مهتدين إلى طريق معرفة الحق وتمييز الراجح من المرجوح، وظالمون بوضع كل منهما موضع الآخر، وفيه زيادة تقرير لعدم التساوي بينهم، وقوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية