الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلا وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا ) .

قيل : سبب نزولها أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - شتمه بعض الكفرة ، فسبه عمر وهم بقتله فكاد يثير فتنة ، فنزلت الآية وهي منسوخة بآية السيف ، وارتباطها بما قبلها أنه لما تقدم ما نسب الكفار لله تعالى من الولد ، ونفورهم عن كتاب الله إذا سمعوه ، وإيذاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونسبته إلى أنه مسحور ، وإنكار البعث كان ذلك مدعاة لإيذاء المؤمنين ، ومجلبة لبغض المؤمنين إياهم ومعاملتهم بما عاملوهم ، فأمر الله تعالى نبيه أن يوصي المؤمنين بالرفق بالكفار واللطف بهم في القول ، وأن لا يعاملوهم بمثل أفعالهم وأقوالهم ، فعلى هذا يكون المعنى ( قل لعبادي ) المؤمنين ( يقولوا ) للمشركين الكلم ( التي هي أحسن ) . وقيل : المعنى ( يقولوا ) أي : يقول بعض المؤمنين لبعض الكلم التي هي أحسن ، أي : يجل بعضهم بعضا ويعظمه ، ولا يصدر منه إلا الكلام الطيب والقول الجميل ، فلا يكونوا مثل المشركين في معاملة بعضهم بعضا بالتهاجي والسباب والحروب والنهب للأموال والسبي للنساء والذراري .

وقيل : عبادي هنا : المشركون ؛ إذ المقصود هنا الدعاء إلى الإسلام ، فخوطبوا بالخطاب [ ص: 49 ] الحسن ليكون ذلك سببا إلى قبول الدين ، فكأنه قيل : قل للذين أقروا أنهم عباد لي يقولوا ( التي هي أحسن ) وهو توحيد الله تعالى ، وتنزيهه عن الولد واتخاذ الملائكة بنات ، فإن ذلك من نزغ الشيطان ووسوسته وتحسينه . وقيل : عبادي : شامل للفريقين المؤمنين والكافرين على ما يأتي تفسير ( التي هي أحسن ) ، والذي يظهر أن لفظة عبادي مضافة إليه تعالى كثر استعمالها في المؤمنين في القرآن ، كقوله : ( فبشر عباد الذين يستمعون القول ) ( فادخلي في عبادي ) ( عينا يشرب بها عباد الله ) .

و ( قل ) خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وهو أمر ، ومعمول القول محذوف تقديره : قولوا ( التي هي أحسن ) وانجزم ( يقولوا ) على أنه جواب للأمر الذي هو قل . قاله الأخفش ، وهو صحيح المعنى على تقدير أن يكون عبادي يراد به المؤمنون ; لأنهم لمسارعتهم لامتثال أمر الله تعالى بنفس ما يقول لهم ذلك قالوا ( التي هي أحسن ) . وعن سيبويه : أنه انجزم على جواب لشرط محذوف ، أي : أن يقل لهم ( يقولوا ) فيكون في قوله حذف معمول القول ، وحذف الشرط الذي ( يقولوا ) جوابه . وقال المبرد : انجزم جوابا للأمر الذي هو معمول ( قل ) أي : قولوا ( التي هي أحسن ) ( يقولوا ) . وقيل : معمول ( قل ) مذكور لا محذوف وهو ( يقولوا ) على تقدير لام الأمر ، وهو مجزوم بها قاله الزجاج . وقيل : ( يقولوا ) مبني وهو مضارع حل محل المبني الذي هو فعل الأمر فبني ، والمعنى ( قل لعبادي ) قولوا . قاله المازني ، وهذه الأقوال جرت في قوله ( قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة ) وترجيح ما ينبغي أن يرجح مذكور في علم النحو .

و ( التي هي أحسن ) قالت فرقة منهم ابن عباس : هي قول لا إله إلا الله . قال ابن عطية : ويلزم على هذا أن يكون قوله : ( لعبادي ) يريد به جميع الخلق ; لأن جميعهم مدعو إلى لا إله إلا الله . ويجيء قوله بعد ذلك ( إن الشيطان ينزغ بينهم ) غير مناسب للمعنى إلا على تكبره بأن يجعل ( بينهم ) بمعنى خلالهم وأثناءهم ، ويجعل ( النزغ ) بمعنى الوسوسة والإملال . وقال الحسن : يرحمك الله يغفر الله لك ، وعنه أيضا : الأمر بامتثال الأوامر واجتناب المناهي . وقيل : القول للمؤمن : يرحمك الله وللكافر هداك الله . وقال الجمهور : وهي المحاورة الحسنى بحسب معنى معنى . وقال الزمخشري : فسر ( التي هي أحسن ) بقوله : ( ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم ) يعني : يقول لهم هذه الكلمة ونحوها ولا تقولوا لهم : أنكم من أهل النار وأنكم معذبون ، وما أشبه ذلك مما يغيظهم ويهيجهم على الشر . وقوله : ( إن الشيطان ينزغ بينهم ) اعتراض بمعنى يلقي بينهم الفساد ، ويغري بعضهم على بعض ; ليقع بينهم المشارة والمشاقة .

وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه : إذا أردتم الحجة على المخالف فاذكروها بالطريق الأحسن ، وهو أن لا يخلط بالسب ، كقوله : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ) وخلط الحجة بالسب سبب للمقابلة بمثله ، وتنفير عن حصول المقصود من إظهار الحجة وتأثيرها ، ثم نبه على هذا الطريق بقوله : ( إن الشيطان ينزغ بينهم ) جامعا للفريقين أي : متى امتزجت الحجة بالإيذاء كانت الفتنة . انتهى . وقرأ طلحة " ينزغ " بكسر الزاي . قالأبو حاتم : لعلها لغة ، والقراءة بالفتح . وقال صاحب اللوامح : هي لغة . وقال الزمخشري : هما لغتان نحو يعرشون ويعرشون . انتهى . ولو مثل بـ ينطح وينطح كان أنسب ، وبين تعالى سبب النزغ ، وهي العداوة القائمة لأبيهم آدم قبلهم ، وقوله : ( ثم لآتينهم من بين أيديهم ) الآية . وغيرها من الآيات الدالة على تسلطه على الإنسان وابتغاء الغوائل المهلكة له . والخطاب بقوله : (ربكم ) إن كان للمؤمنين فالرحمة الإنجاء من كفار مكة وأذاهم ، والتعذيب تسليطهم [ ص: 50 ] عليهم .

( وما أرسلناك عليهم ) أي : على الكفار حافظا وكفيلا فاشتغل أنت بالدعوة ، وإنما هدايتهم إلى الله . وقيل : ( يرحمكم ) بالهداية إلى التوفيق والأعمال الصالحة ، وإن شاء عذبكم بالخذلان ، وإن كان الخطاب للكفار فقال : يقابل يرحمكم الله بالهداية إلى الإيمان ، و يعذبكم يميتكم على الكفر . وذكر أبو سليمان الدمشقي : لما نزل القحط بالمشركين قالوا : ( ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون ) فقال الله : ( ربكم أعلم بكم ) بالذي يؤمن من الذي لا يؤمن ( إن يشأ يرحمكم ) فيكشف القحط عنكم ( أو إن يشأ يعذبكم ) فيتركه عليكم . وقال ابن عطية : هذه الآية تقوي أن الآية التي قبلها هي ما بين العباد المؤمنين وكفار مكة ، وذلك أن قوله : ( ربكم أعلم بكم ) مخاطبة لكفار مكة بدليل قوله : ( وما أرسلناك عليهم وكيلا ) فكأنه أمر المؤمنين أن لا يخاشنوا الكفار في الدين ، ثم قال : إنه أعلم بهم ورجاهم وخوفهم ، ومعنى ( يرحمكم ) بالتوبة عليكم قاله ابن جريج وغيره . انتهى . وتقدم من قول الزمخشري أن قوله : ( ربكم أعلم بكم ) هي من قول المؤمنين للكفار ، وأنه تفسير لقوله : ( التي هي أحسن ) .

وقال ابن الأنباري : ( أو ) دخلت هنا لسعة الأمرين عند الله ولا يراد عنهما ، فكانت ملحقة بأو المبيحة في قولهم : جالس الحسن أو ابن سيرين يعنون : قد وسعنا لك الأمر . وقال الكرماني : ( أو ) للإضراب ، ولهذا كرر ( إن ) ولما ذكر تعالى أنه أعلم بمن خاطبهم بقوله : ( ربكم أعلم بكم ) انتقل من الخصوص إلى العموم ، فقال مخاطبا لرسوله صلى الله عليه وسلم : ( وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ) ليبين أن علمه غير مقصور عليكم بل علمه متعلق بجميع من في السماوات والأرض ، بأحوالهم ومقاديرهم وما يستأهل كل واحد منهم ، و ( بمن ) متعلق بأعلم كما تعلق بكم قبله بأعلم ، ولا يدل تعلقه به على اختصاص أعلميته تعالى بما تعلق به ، كقولك : زيد أعلم بالنحو ، لا يدل هذا على أنه ليس أعلم بغير النحو من العلوم . وقال أبو علي : الباء تتعلق بفعل تقديره علم ( بمن ) قال : لأنه لو علقها بأعلم لاقتضى أنه ليس بأعلم بغير ذلك وهذا لا يلزم ، وأيضا فإن علم لا يتعدى بالباء إنما يتعدى لواحد بنفسه لا بواسطة حرف الجر أو لا يبين على ما تقرر في علم النحو . ولما كان الكفار قد استبعدوا تنبئة البشر إذ فيه تفضيل الأنبياء على غيرهم أخبر تعالى بتفضيل الأنبياء على بعض إشارة إلى أنه لا يستبعد تفضيل الأنبياء على غيرهم إذ وقع التفضيل في هذا الجنس المفضل على الناس ، والله تعالى أعلم بما خص كل واحد من المزايا فهو يفضل من شاء منهم على من شاء إذ هو الحكيم فلا يصدر شيء إلا عن حكمته ، وفيه إشارة إلى أنه لا يستنكر تفضيل محمد - صلى الله عليه وسلم - على سائر الأنبياء وخص داود بالذكر هنا ; لأنه تعالى ذكر في الزبور أن محمدا خاتم الأنبياء وأن أمته خير الأمم ، وقال تعالى : ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) وهم محمد وأمته ، وكانت قريش ترجع إلى اليهود كثيرا فيما يخبرون به مما في كتبهم ، فنبه على أن زبور داود تضمن البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وفي ذلك إشارة رد على مكابري اليهود حيث قالوا : لا نبي بعد موسى ، ولا كتاب بعد التوراة ، ونص تعالى هنا على إيتاء داود الزبور ، وإن كان قد آتاه مع ذلك الملك إشارة إلى أن التفضيل المحض هو بالعلم الذي آتاه ، والكتاب الذي أنزل عليه كما فضل محمد - صلى الله عليه وسلم - بما آتاه من العلم والقرآن الذي خصه به . وتقدم تفسير ( وآتينا داود زبورا ) في أواخر النساء ، وذكر الخلاف في ضم الزاي وفتحها .

وقال الزمخشري هنا : فإن قلت : هلا عرف الزبور كما عرف في ( ولقد كتبنا في الزبور ) قلت : يجوز أن يكون الزبور وزبور كالعباس وعباس والفضل وفضل ، وأن يريد ( وآتينا داود ) بعض الزبور ، وهي الكتب وأن يريد ما ذكر فيه رسول الله صلى الله [ ص: 51 ] عليه وسلم من الزبور ، فسمي ذلك زبورا لأنه بعض الزبور كما سمي بعض القرآن قرآنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية