الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 505 ] ( ثم يأتي زمزم فيشرب من مائها ( بعد الطواف بالبيت ) ) لما روي { أن النبي عليه الصلاة والسلام استقى دلوا بنفسه فشرب منه ثم أفرغ [ ص: 506 ] باقي الدلو في البئر } ويستحب أن يأتي الباب ويقبل العتبة ( ثم يأتي الملتزم ، وهو ما بين الحجر إلى الباب فيضع صدره ووجهه عليه ويتشبث بالأستار ساعة ثم يعود إلى أهله ) [ ص: 507 ] هكذا روي أن النبي عليه الصلاة والسلام فعل بالملتزم ذلك . قالوا : وينبغي أن ينصرف وهو يمشي وراءه ووجهه إلى البيت متباكيا متحسرا على فراق البيت حتى يخرج من المسجد . فهذا بيان تمام الحج .

التالي السابق


( قوله ويأتي زمزم ) أي بعد تقبيل العتبة والتزام الملتزم فيشرب منه ويفرغ على جسده باقي الدلو ويقول : اللهم إني أسألك رزقا واسعا وعلما نافعا وشفاء من كل داء كذا عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وسنضم إلى هذا ما يتيسر من قريب إن شاء الله تعالى ، ثم ينصرف راجعا إلى أهله مقهقرا .

وإذا خرج من مكة يخرج من الثنية السفلى من أسفل مكة لما روى الجماعة إلا الترمذي { أنه عليه الصلاة والسلام كان يدخل من الثنية العليا ويخرج من الثنية السفلى } ( قوله لما روي { أن النبي عليه الصلاة والسلام استقى } إلخ ) الذي في حديث جابر الطويل يفيد أنهم نزعوا له كذا في مسند أحمد ومعجم الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنه قال { جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى زمزم فنزعنا له دلوا فشرب ثم مج فيها ثم أفرغناها في زمزم . ثم قال : لولا أن تغلبوا عليها لنزعت بيدي } وما رواه المصنف من أنه عليه الصلاة والسلام استقى بنفسه دلوا رواه في كتاب الطبقات مرسلا .

أخبرنا عبد الوهاب عن ابن جريج عن عطاء { أن النبي عليه الصلاة والسلام لما أفاض نزع بالدلو : يعني من زمزم لم ينزع معه أحد ، فشرب ثم أفرغ باقي الدلو في البئر وقال : لولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لم ينزع منها أحد غيري ، قال : فنزع هو بنفسه الدلو فشرب منها لم يعنه على نزعها أحد } وقد يجمع بأن ما في هذا كان بعقب طواف الوداع ، وما في حديث جابر رضي الله عنه وما معه كان عقيب طواف الإفاضة ، ولفظه ظاهر فيه حيث قال { فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر ، فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال : انزعوا } الحديث . وطوافه للوداع كان ليلا كما رواه البخاري عن أنس بن مالك { أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بمكة الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، ورقد رقدة بالمحصب ثم ركب إلى البيت فطاف به } ولكن قد يعكره ما رواه الأزرقي في تاريخ مكة : حدثني جدي أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي ، حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن طاوس عن أبيه رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم أفاض في نسائه ليلا فطاف على راحلته يستلم الركن بمحجنه ويقبل طرف المحجن ، ثم أتى زمزم فقال : انزعوا ، فلولا أن تغلبوا لنزعت معكم ثم أمر بدلو فنزع له منها فشرب } الحديث ، إلا أن يحمل على أن أزواجه أفضن لطواف الإفاضة ليلا فمضى معهن عليه الصلاة والسلام ، والله سبحانه أعلم .

( فصل في فضل ماء زمزم ، تكثيرا للفائدة وترغيبا للعابدين )

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم ، فيه طعام طعم وشفاء سقم ، وشر ماء على وجه الأرض ماء بوادي برهوت بقبة حضرموت كرجل الجراد يصبح يتدفق وتمسي لا بلال فيها } رواه الطبراني في الكبير ، ورواته ثقات ، ورواه ابن حبان أيضا . وبرهوت [ ص: 506 ] بفتح الباء الموحدة والراء وضم الهاء وآخره تاء مثناة .

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { زمزم طعام طعم وشفاء سقم } رواه البزار بإسناد صحيح . وطعم بضم الطاء وسكون العين : أي طعام يشبع . وعن ابن عباس رضي الله عنه " كنا نسميها شباعة : يعني زمزم ، وكنا نجدها نعم العون على العيال " رواه الطبراني في الكبير وإسناده صحيح . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ماء زمزم لما شرب له ، إن شربته تستشفي شفاك الله ، وإن شربته لشبعك أشبعك الله ، وإن شربته لقطع ظمئك قطعه الله ، وهي هزمة جبريل وسقيا الله إسماعيل } رواه الدارقطني وسكت عنه مع أن شيخه فيه عمر بن حسن الأشناني ، تأثمه الذهبي في الميزان بسكوته مع أن ابن الحسن الأشناني القاضي أبا الحسين ضعفه الدارقطني ، وجاء عنه أنه كذبه وله بلايا قال : وهو بهذا الإسناد باطل لم يروه ابن عيينة ، بل المعروف حديث جابر من رواية عبد الله بن المؤمل .

ودفع بأن الأشناني لم ينفرد به حتى يلزم الدارقطني شرح حاله ، وقد سلم الذهبي ثقة من بين الأشناني وابن عيينة ولهذا انحصر القدح عنه فيه ، لكن قد رواه الحاكم في المستدرك قال : حدثنا علي بن حمشاد العدل ، حدثنا محمد بن هشام به ، وزاد فيه { وإن شربته مستعيذا أعاذك الله } قال : وكان ابن عباس رضي الله عنه إذا شرب ماء زمزم قال : اللهم إني أسألك علما نافعا وشفاء من كل داء . وقال : صحيح الإسناد إن سلم من الجارود ، وقيل قد سلم منه فإنه صدوق .

وقال الخطيب في تاريخه والحافظ المنذري : لكن الراوي محمد بن هشام المروزي لا أعرفه ا هـ . وقال غيره ممن يوثق بسعة حاله وهو قاضي القضاة شهاب الدين العسقلاني هو ابن حجر علي بن حمشاد من الأثبات ، وهو بفتح الحاء المهملة أول الحروف ثم ميم ساكنة بعدها شين معجمة ، وشيخه محمد بن هشام ثقة . والهزمة بفتح الهاء : أن تغمر موضعا بيدك أو رجلك فيصير . فيه حفرة ، فقد ثبت صحة هذا الحديث إلا ما قيل إن الجارود تفرد عن ابن عيينة بوصله ، ومثله لا يحتج به إذا انفرد فكيف إذا خالف ؟ وهو من رواية الحميدي وابن أبي عمر وغيرهما ممن لازم ابن عيينة أكثر من الجارود فيكون أولى . واعلم أن الذي نحتاج إليه الحكم بصحة المتن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا علينا كونه من خصوص طريق بعينه .

وهنا أمور تدل عليه : منها أن مثله لا مجال للرأي فيه فوجب كونه سماعا ، وكذا إن قلنا العبرة في تعارض الوصل والوقف والإرسال للواصل بعد كونه ثقة لا للأحفظ ولا غيره ، مع أنه قد صح تصحيح نفس ابن عيينة له في ضمن حكاية حكاها أبو بكر الدينوري في الجزء الرابع من المجالسة قال : حدثنا محمد بن عبد الرحمن ، حدثنا الحميدي قال : كنا عند سفيان بن عيينة فحدثنا بحديث { ماء زمزم لما شرب له } فقام رجل من المجلس ثم عاد فقال : يا أبا محمد أليس الحديث الذي قد حدثتنا في ماء زمزم صحيحا ؟ قال : نعم ، قال الرجل : فإني شربت الآن دلوا من زمزم على أنك تحدثني بمائة حديث ، فقال له سفيان : اقعد فقعد فحدث بمائة حديث .

فبجميع ما ذكرنا لا يشك بعد في صحة هذا الحديث سواء كان على اعتباره موصولا من حديث ابن عباس رضي الله عنه أو حكما بصحة المرسل لمجيئه من وجه آخر مما سنذكره ، أو حكما بأنه عن النبي عليه الصلاة والسلام بسبب أنه مما لا يدرك بالرأي . وأعني بالمرسل ذلك الموقوف على مجاهد بناء على أنه إذا كان لا مجال للرأي فيه بمنزلة قول [ ص: 507 ] مجاهد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى ما رواه سعيد بن منصور عن ابن عيينة في السنن كذلك . وأما مجيئه من وجه آخر ، فروى أحمد في مسنده وابن ماجه عن عبد الله بن المؤمل أنه سمع أبا الزبير يقول : سمعت جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { ماء زمزم لما شرب له } هذا لفظه عند ابن ماجه ولفظه عند أحمد { ماء زمزم لما شرب منه } وقال الحافظ المنذري : وهذا إسناد حسن ، وإنما حسنه مع أنه ذكر له علتان ضعف ابن المؤمل وكون الراوي عنه في مسند ابن ماجه الوليد بن مسلم وهو يدلس وقد عنعنه لأن ابن المؤمل مختلف فيه ، واختلف فيه قول ابن معين قال مرة ضعيف ، وقال مرة لا بأس به ، وقال مرة صالح .

ومن ضعفه فإنما ضعفه من جهة حفظه كقول أبي زرعة والدارقطني وأبي حاتم فيه : ليس بقوي ، وقال ابن عبد البر : سيئ الحفظ ما علمنا فيه ما يسقط عدالته ، فهو حينئذ ممن يعتبر بحديثه ، وإذا جاء من غير طريقه صار حسنا ، ولا شك في مجيء الحديث المذكور كذلك . وأما العلة الثانية فمنتفية ، فإن الحديث معروف عن عبد الله بن المؤمل من غير رواية الوليد فإنه في رواية الإمام أحمد هكذا : حدثنا عبد الله بن الوليد ، حدثنا عبد الله بن المؤمل عن أبي الزبير إلخ ، فقد ثبت حسنه من هذا الطريق ، فإذا انضم إليه ما قدمناه حكم بصحته .

وفي فوائد أبي بكر بن المقري من طريق سويد بن سعيد المذكور قال : رأيت ابن المبارك دخل زمزم فقال : اللهم إن ابن المؤمل حدثني عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { ماء زمزم لما شرب له اللهم فإني أشربه لعطش يوم القيامة } .

وما عن سويد عن ابن المبارك في هذه القصة أنه قال : اللهم إن ابن المؤمل حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر محكوم بانقلابه على سويد في هذه المرة بل المعروف في السند الأول . وهذه زيادات عن السائب أنه كان يقول : { اشربوا من سقاية العباس رضي الله عنه فإنه من السنة } . رواه الطبراني وفيه رجل مجهول .

وعن جماعة من العلماء أنهم شربوه لمقاصد فحصلت ، فمنهم صاحب ابن عيينة المتقدم . وعن الشافعي أنه شربه للرمي فكان يصيب في كل عشرة تسعة ، وشربه الحاكم لحسن التصنيف ولغير ذلك فكان أحسن أهل عصره تصنيفا . قال شيخنا قاضي القضاة شهاب الدين العسقلاني الشافعي . ولا يحصى كم شربه من الأئمة لأمور نالوها ، قال : وأنا شربته في بداية طلب الحديث أن يرزقني الله حالة الذهبي في حفظ الحديث ، ثم حججت بعد مدة تقرب من عشرين سنة وأنا أجد من نفسي المزيد على تلك الرتبة ، فسألت رتبة أعلى منها وأرجو الله أن أنال ذلك منه ا هـ .

وجميع ما تضمنه هذا الفصل غالبه من كلامه وقليل منه من كلام الحافظ عبد العظيم المنذري ، والعبد الضعيف يرجو الله سبحانه شربه للاستقامة والوفاة على حقيقة الإسلام معها ( قوله هكذا روي ) روى أبو داود عن عمرو بن شعيب قال : { طفت مع عبد الله ، فلما جئنا دبر الكعبة قلت : ألا تتعوذ ؟ قال : أتعوذ بالله من النار ، ثم مضى حتى استلم الحجر وقام بين الركن والباب ، فوضع صدره ووجهه وذراعيه وكفيه هكذا ، وبسطهما بسطا ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله } . ورواه ابن ماجه وقال فيه عن أبيه عن جده قال [ ص: 508 ] المنذري : فيكون شعيب ومحمد قد طافا مع عبد الله ا هـ .

وهو مضعف بالمثنى بن الصباح ، والمراد بعبد الله عبد الله بن عمرو بن العاص جد عمرو بن شعيب الأعلى ، صرح بتسميته عبد الرزاق في روايته بسند أجود منه . وأما تعيين محل الملتزم فأسند البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس رضي الله عنهما عنه صلى الله عليه وسلم قال { ما بين الركن والباب ملتزم } وأخرجه ابن عدي في الكامل عن عباد بن كثير عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا ، ووقفه عبد الرزاق قال : حدثنا ابن عيينة عن عبد الكريم الجزري عن مجاهد قال : قال ابن عباس : هذا الملتزم ما بين الركن والباب ، وكذا هو في الموطإ بلاغا ، ولمثله حكم المرفوع لعدم استقلال العقل به ، هذا والملتزم من الأماكن التي يستجاب فيها الدعاء نقل ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : فوالله ما دعوت قط إلا أجابني .

وفي رسالة الحسن البصري أن الدعاء مستجاب هناك في خمسة عشر موضعا : في الطواف ، وعند الملتزم ، وتحت الميزاب ، وفي البيت ، وعند زمزم ، وخلف المقام ، وعلى الصفا ، وعلى المروة ، وفي السعي ، وفي عرفات ، وفي مزدلفة ، وفي منى ، وعند الجمرات .

وذكر غيره أنه يستجاب عند رؤية البيت وفي الحطيم ، لكن الثاني هو تحت الميزاب ، ويستحب أن يدخل البيت وقد قدمنا آدابه في الفروع التي تتعلق في الطواف فارجع إليها .




الخدمات العلمية