الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن ذلك ما نقله أبو حامد أيضا عن أحمد أنه قال: "علماء الكلام زنادقة" . قال: "وقال مالك: أرأيت إن جاء من هو أجدل منه أيدع دينه كل يوم لدين جديد؟" . قال: "يعني أن أقوال المتجادلين تتقاوم" . قال: "وقال مالك: لا تجوز شهادة أهل الأهواء والبدع. فقال بعض أصحابه في تأويله: إنه أراد بأهل الأهواء: أهل الكلام على أي مذهب كانوا" .

قلت: هذا الذي كنى عنه أبو حامد هو محمد بن خويز منداد [ ص: 158 ] البصري الإمام المالكي، وقد قال: "إن أهل الأهواء عند مالك وأصحابه، الذين ترد شهادتهم، هم أهل الكلام" .

قال: "فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع عند مالك وأصحابه. وكل متكلم فهو عندهم من أهل الأهواء: أشعريا كان أو غير أشعري" هكذا ذكره عنه ابن عبد البر، ومنه نقل ذلك أبو حامد، لكن كنى عن التصريح بذلك.

قال أبو حامد: "وقال أبو يوسف: من طلب العلم بالكلام تزندق" . [ ص: 159 ]

وقال: "وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا، ولا ينحصر ما ينقل عنهم من التشديدات فيه. وقالوا: ما سكت عنه الصحابة، مع أنهم أعرف بالحقائق، وأفصح في ترتيب الألفاظ من غيرهم، إلا لعلمهم بما يتولد منه.

ولذلك قال [النبي] صلى الله عليه وسلم: هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، أي المتعمقون في البحث والاستقصاء" .

قال: "واحتجوا بأن ذلك لو كان من الدين، لكان أهم ما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ويعلم طريقه، ويثني على أربابه، فقد علمهم الاستنجاء وندبهم إلى حفظ الفرائض [ ص: 160 ] وأثنى عليهم ونهاهم عن الكلام في القدر، وعلى هذا استمر الصحابة، فالزيادة على الأستاذ طغيان وظلم، وهم الأستاذون والقدوة، ونحن الأتباع والتلامذة" .

قال: "وأما الفرقة الأخرى، فاحتجوا بأن المحذور من الكلام: إن كان هو من أجل لفظ (الجوهر) و (العرض) وهذه الاصطلاحات الغريبة التي لم تعهدها الصحابة، فالأمر فيه قريب، إذ ما من علم إلا وقد أحدث فيه اصطلاحات لأجل التفهم كالحديث والتفسير والفقه، ولو عرض عليهم عبارة النقض والكسب، والتعدية، والتركيب، وفساد الوضع لما كانوا يفهمونه، وإحداث عبارة للدلالة على مقصود صحيح، كإحداث آنية على [ ص: 161 ] هيئة جديدة لاستعمالها في مباح. وإذا كان المحذور هو المعنى، فنحن لا نعني به إلا معرفة الدليل على حدوث العالم، ووحدانية الخالق تعالى وصفاته، كما جاء به الشرع، فمن أين تحرم معرفة الله بالدليل؟ وإن كان المحذور هو الشغب، والتعصب، والعداوة، والبغض وما يفضي إليه الكلام، فذلك يحرم ويجب الاحتراز منه، كما أن الكبر والرياء وطلب الرياسة مما يفضي إليه على الحديث والتفسير والفقه، وهو محرم يجب الاحتراز منه، ولكن لا يمنع من العلم لأجل أدائه إليه.

وكيف يكون ذكر الحجة والمطالبة، والبحث عنها محظورا، وقد قال تعالى: قل هاتوا برهانكم [سورة النمل: 64] ، وقال تعالى: ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة [سورة الأنفال: 42] . [ ص: 162 ] وقال تعالى: إن عندكم من سلطان [سورة يونس: 68] أي من حجة وبرهان.

وقال تعالى: قل فلله الحجة البالغة [سورة الأنعام: 149] .

وقال تعالى: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه إلى قوله فبهت الذي كفر [سورة البقرة: 158] ، وذكر إبراهيم ومجادلته وإفحامه خصمه في معرض الثناء عليه. وقال تعالى: وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه [سورة الأنعام: 83] .

وذكر كلاما طويلا ذكرناه وتكلمنا على ما فيه من مقبول ومردود كلاما مبسوطا في غير هذا الموضع، إلى أن قال: (فهذا ما يمكن أن يذكر للفريقين) .

ثم ذكر تفصيلا اختاره، مضمونه: أن فيه مضرة من آثار الشبهات وتحريك العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم، ومضرة في تأكيد اعتقاد المبتدعة، وتثبيته في صدورهم، بحيث تنبعث [ ص: 163 ] دواعيهم، ويشتد حرصهم على الإصرار عليه، ولكن هذا الإصرار بواسطة التعصب الذي يثور عن الجدل) .

قلت: المضرة التي ذكرها: نوعان: أحدهما: يتعلق بالعلم، وهو التنبيه على شبه الباطل التي تضعف اعتقاد الحق، وتفضي إلى الباطل.

والثاني: يتعلق بالقصد، وهو إثارة الهوى والحمية والعصبية التي تدعو إلى الإصرار ولو على الباطل، لئلا يغلب الشيطان.

قال: (وأما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه، وهيهات، فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف، وهذا إذا سمعته من محدث أو حشوي ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا.

فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة، وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين، وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخرى سوى نوع الكلام، وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود) .

قال (ولعمري لا ينفك الكلام عن كشف وتعريف [ ص: 164 ] [وإيضاح] لبعض الأمور، ولكن على الندور، وفي أمور جلية تكاد تنال قبل التعمق في صناعة الكلام) .

قال: (بل منفعته شيء واحد، وهو حراسة العقيدة التي ترجمناها على العوام، وحفظها عن تشويشات المبتدعة بأنواع الجدل، فإن العامي يستفزه جدل المبتدع وإن كان فاسدا، ومعارضة الفاسد بالفاسد نافعة، والناس متعبدون بهذه العقيدة التي قدمناها، إذ ورد الشرع بها لما فيها من صلاح دينهم ودنياهم، واجتماع السلف عليها، والعلماء متعبدون بحفظ ذلك على العوام من تلبيسات المبتدعة، كما تعبد السلاطين بحفظ أموالهم عن تهجمات الغصاب والظلمة) .

قال: (وإذا وقعت الإحاطة بضرره ومنفعته فينبغي أن يكون [ ص: 165 ] كالطبيب الحاذق في استعمال الدواء الخطر، إذ لا يضعه إلا في موضعه، وذلك في وقت الحاجة، وعلى قدر الحاجة) .

قلت فهذا كلام أبي حامد، مع معرفته بالكلام والفلسفة، وتعمقه في ذلك يذكر اتفاق سلف أهل السنة على ذم الكلام، ويذكر خلاف من نازعهم، ويبين أنه ليس فيه فائدة إلا الذب عن العقائد الشرعية التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، وإذا لم يكن فيه فائدة إلا الذب عن هذه العقائد، امتنع أن يكون معارضا لها، فضلا عن أن يكون مقدما عليها، فامتنع أن يكون الكلام العقلي المقبول مناقضا للكتاب والسنة، وما كان من ذلك مناقضا للكتاب والسنة، وجب أن يكون من الكلام الباطل المردود الذي لا ينازع في ذمه أحد من المسلمين: لا من السلف والأئمة، ولا أحد من الخلف المؤمنين أهل المعرفة بعلم الكلام والفلسفة، وما يقبل من ذلك وما يرد، وما يحمد وما يذم، وإن من قبل ذلك وحمده كان من أهل الكلام الباطل المذموم باتفاق هؤلاء.

هذا مع أن السلف والأئمة يذمون ما كان من الكلام والعقليات والجدل باطلا، وإن قصد به نصر الكتاب والسنة، فيذمون من قابل بدعة ببدعة، وقابل الفاسد بالفاسد، فكيف من قابل السنة بالبدعة، وعارض الحق بالباطل، وجادل في آيات الله بالباطل ليدحض به الحق؟! [ ص: 166 ]

ولكن المقصود هنا بيان ما ذكره من اتفاق أئمة السنة على ذمه، وما ذكره من أنه هو وطريق الفلسفة لا يفيد كشف الحقائق ومعرفتها، مع خبرته بذلك. وهو تكلم بحسب ما بلغه عن السلف، وما فهمه وعلمه مما يحمد ويذم، ولم تكن خبرته بأقوال السلف وحقيقة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، كخبرته بما سلكه من طرق أهل الكلام والفلسفة، فلذلك لم يكن في كلامه من هذا الجانب من العلم والخبرة ما فيه من الجانب الذي هو به أخبر من غيره، وذلك أن ما ذكره من أن مضرته هي إثارة الشبهات في العلم، وإثارة التعصب في الإرادة، إنما يقال إذا كان الكلام في نفسه حقا، بأن تكون قضاياه ومقدماته صادقة، بل معلومة.

فإذا كان مع ذلك قد يورث النظر فيه شبها وعداوة قيل فيه ذلك: والسلف لم يكن ذمهم للكلام لمجرد ذلك، ولا لمجرد اشتماله على ألفاظ اصطلاحية إذا كانت معانيها صحيحة، ولا حرموا معرفة الدليل على الخالق وصفاته وأفعاله، بل كانوا أعلم الناس بذلك، وأعرفهم بأدلة ذلك، ولا حرموا نظرا صحيحا في دليل صحيح يفضي إلى علم نافع، ولا مناظرة في ذلك نافعة: إما لهدي مسترشد، وإما لإعانة مستنجد، وإما لقطع مبطل متلدد، بل هم أكمل الناس نظرا واستدلالا واعتبارا، وهم نظروا في أصح الأدلة وأقومها، فإن الناظر [ ص: 167 ] الطالب للعلم: إما أن يكون نظره في كلام معلم يبين له ويخاطبه بما يعرفه الحق، وإما أن يكون في نفس الأمور الثابتة، التي يخبر عنها المتكلم ويريد أن يعلم أمرها المتعلم، كسائر الناظرين في الطب والنحو وغير ذلك: إما أن ينظر في كلام المعلمين لهذا الفن، وإما أن ينظر فيما من شأنه أنه يخبر عنه كالأبدان واللغات.

التالي السابق


الخدمات العلمية