الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والسلف كان نظرهم في خير الكلام وأفضله، وأصدقه وأدله على الحق، وهو كلام الله تعالى، وهم ينظرون في آيات الله تعالى التي في الآفاق وفي أنفسهم، فيرون في ذلك من الأدلة ما يبين أن القرآن حق.

قال تعالى: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق [سورة فصلت: 53] .

والمناظرة المحمودة نوعان: والمذمومة نوعان، وذلك لأن المناظر: إما أن يكون عالما بالحق، وإما أن يكون طالبا له، وإما أن لا يكون عالما به ولا طالبا له.

فهذا الثالث هو المذموم بلا ريب، وأما الأولان: فمن كان عالما بالحق فمناظرته المحمودة أن يبين لغيره الحجة التي تهديه إن كان مسترشدا طالبا للحق إذا تبين له، أو يقطعه ويكف عدوانه إن كان معاندا [غير] متبع للحق إذا تبين له، ويوقفه ويسلكه ويبعثه على النظر في أدلة الحق إن كان يظن أنه حق وقصده الحق.

وذلك لأن المخاطب بالمناظرة إذا ناظره العالم المبين للحجة: إما أن [ ص: 168 ] يكون ممن يفهم الحق ويقبله، فهذا إذا بين له الحق فهمه وقبله، وإما أن يكون ممن لا يقبله إذا فهمه، أو ليس له غرض في فهمه، بل قصده مجرد الرد له، فهذا إذا نوظر بالحجة انقطع وانكف شره عن الناس وعداوته، وهذا هو المقصود الذي ذكره أبو حامد وغيره، وهو دفع أعداء السنة المجادلين بالباطل عنها.

وإما أن يكون الحق قد التبس عليه، وأصل قصده الحق، لكن يصعب عليه معرفته لضعف علمه بأدلة الحق، مثل من يكون قليل العلم بالآثار النبوية الدالة على ما أخبر به من الحق، أو لضعف عقله لكونه لا يمكنه أن يفهم دقيق العلم، أو لا يفهمه إلا بعد عسر، أو قد سمع من حجج الباطل ما اعتقد موجبه وظن أنه لا جواب عنه، فهذا إذا نوظر بالحجة أفاده ذلك: إما معرفة الحق، وإما شكا وتوقفا في اعتقاد الباطل، أو في اعتقاد صحة الدليل الذي استدل به عليه، وبعث همته على النظر في الحق وطلبه، إن كان له رغبة في ذلك، فإن صار من أهل العصبية الذين يتبعون الظن وما تهوى الأنفس ألحق بقسم المعاندين كما تقدم.

وأما المناظرة المذمومة من العالم بالحق، فأن يكون قصده مجرد الظلم والعدوان لمن يناظره. ومجرد إظهار علمه وبيانه لإرادة العلو في الأرض، فإذا أراد علوا في الأرض أو فسادا كان مذموما على إرادته [ ص: 169 ] ثم قد يكون من الفجار الذين يؤيد الله بهم الدين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، فكما قد يجاهد الكفار فاجر فينتفع المسلمون بجهاده، فقد يجادلهم فاجر فينتفع المسلمون بجداله، لكن هذا يضر نفسه بسوء قصده وربما أوقعه ذلك في أنواع من الكذب والبدعة والظلم، فيجره إلى أمور أخرى.

وقد وقع في ذلك كثير من هؤلاء وهؤلاء.

وأما إن كان المناظر غير عالم بالحق، بأن لا يعرف الحق في نفس المسألة، أو يعرف الحق لكن لا يعرف بعض الحجج، أو الجواب عن بعض المعارضات، أو الجمع بين دليلين متعارضين، وأمثال ذلك - فهذا إذا ناظر: طالبا لمعرفة الحق وأدلته، والجواب عما يعارضها، والجمع بين الأدلة الصحيحة - كان محمودا، وإن ناظر بلا علم، فتكلم بما لا يعرف من القضايا والمقدمات - كان مذموما.

التالي السابق


الخدمات العلمية