الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثاني

58 - عن صفوان بن عسال قال : قال يهودي لصاحبه : اذهب بنا إلى هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له صاحبه : لا تقل : نبي ، إنه لو سمعك لكان له أربع أعين . فأتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألاه عن تسع آيات بينات ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله ، ولا تسحروا ، ولا تأكلوا الربا ، ولا تقذفوا محصنة ، ولا تولوا للفرار يوم الزحف ، وعليكم خاصة - اليهود - أن لا تعتدوا في السبت " . قال : فقبلا يديه ورجليه ، وقالا : نشهد أنك نبي . قال : " فما يمنعكم أن تتبعوني ؟ " . قالا : إن داود عليه السلام دعا ربه أن لا يزال من ذريته نبي ، وإنا نخاف إن تبعناك أن تقتلنا اليهود . رواه الترمذي ، وأبو داود ، والنسائي .

التالي السابق


الفصل الثاني

58 - ( عن صفوان بن عسال ) بالمهملتين وتشديد الثانية ، هو المرادي ، وسكن الكوفة ، وحديثه فيهم ( رضي الله عنه قال : قال يهودي ) أي أحد من اليهود ( لصاحبه ) من اليهود ( اذهب بنا ) الباء للمصاحبة أو التعدية ( إلى هذا النبي ) أي لنسأله عن مسائل ( فقال له صاحبه : لا تقل ) أي له كما في رواية ( نبي ) أي هو نبي ( إنه ) بكسر الهمزة استئناف فيه معنى التعليل أي لأن النبي ( لو سمعك ) أي سمع قولك إلى هذا النبي ( لكان له أربع أعين ) أي يسر بقولك هذا النبي سرورا يمد الباصرة فيزداد به نورا على نور ، كذي عينين أصبح يبصر بأربع ، فإن الفرح يمد الباصرة ، كما أن الهم والحزن يخل بها ؛ ولذا يقال لمن أحاطت به الهموم : أظلمت عليه الدنيا ( فأتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألاه ) أي امتحانا ( عن تسع آيات بينات ) أي واضحات ، والآية : العلامة الظاهرة ، تستعمل في المحسوسات كعلامة الطريق ، والمعقولات كالحكم الواضح والمسألة الواضحة ، فيقال لكل ما تتفاوت فيه المعرفة بحسب التفكر فيه والتأمل ، وحسب منازل الناس في العلم : آية وللمعجزة آية ، ولكل جملة دالة على حكم من أحكام الله آية ، ولكل كلام منفصل بفصل لفظي آية ، والمراد بالآيات هاهنا إما المعجزات التسع وهي : العصا ، واليد ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والسنون ، ونقص من الثمرات ، وعلى هذا فقوله : لا تشركوا ، كلام مستأنف ذكره عقيب الجواب ، ولم يذكر الراوي الجواب استغناء بما في القرآن أو بغيره ، ويؤيده ما في خبر الترمذي أنهما سألاه عن هذه الآية يعني : ( ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ) وأما الأحكام العامة الشاملة للملل الثابتة في كل الشرائع ، وبيانها ما بعدها ، سميت بذلك لأنها تدل على حال من يتعاطى متعلقها في الآخرة من السعادة والشقاوة ، وقوله : وعليكم خاصة ، حكم مستأنف زائد على الجواب ؛ ولذا غير السياق ( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تشركوا بالله ) أي بذاته وصفاته وعبادته ( شيئا ) من الأشياء ، أو الإشراك ( ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ) سبق ( ولا تمشوا ببريء ) بهمزة وإدغام أي بمتبرئ من الإثم . الباء للتعدية أي لا تسعوا ، ولا تتكلموا بسوء فيمن ليس له ذنب ( إلى ذي سلطان ) أي صاحب قوة ، وقدرة ، وغلبة ، وشوكة ( ليقتله ) يعني كي لا يقتله مثلا ( ولا تسحروا ) بفتح الحاء ، فإن بعض أنواعه كفر ، وبعضها فسق ( ولا تأكلوا الربا ) فإنه سحق ومحق ( ولا تقذفوا ) بكسر الذال ( محصنة ) بفتح الصاد [ ص: 130 ] ويكسر ، أي لا ترموا بالزنا عفيفة ( ولا تولوا للفرار ) أي لأجله ، من التولي وهو الإعراض والإدبار . أصله تتولوا ، فحذف إحدى التاءين ، وقيل : بضم التاء واللام ، من ولى تولية إذا أدبر أي ولا تولوا أدباركم ، وفي بعض النسخ الفرار بلا لام العلة منصوبا على أنه مفعول له . ( يوم الزحف ) أي الحرب مع الكفار ( وعليكم ) ظرف وقع خبرا مقدما ( خاصة ) منونا حال ، والمستتر في الظرف العائد إلى المبتدأ ، أي مخصوصين بهذه العاشرة ، أو حال كون عدم الاعتداء مختصا بكم دون غيركم من الملل ، أو تمييز ، والخاصة ضد العامة ( اليهود ) نصب على التخصيص والتفسير ، أي أعني اليهود ، ويجوز أن يكون خاصة بمعنى خصوصا ، ويكون اليهود معمولا لفعله أي : أخص اليهود خصوصا ، وفي بعض طرق هذا الحديث " يهود " مضموما بلا لام على أنه منادى ، وقوله : ( أن لا تعتدوا ) بتأويل المصدر في محل الرفع على أنه المبتدأ من الاعتداء ، وفي نسخة صحيحة : أن لا تعدوا بسكون العين وتخفيف الدال ، وفي نسخة بفتح العين وتشديد الدال ( في السبت ) أي لا تتجاوزوا أمر الله في تعظيم السبت بأن لا تصيدوا السمك فيه ، وقيل : " عليكم " اسم فعل بمعنى خذوا ، و " أن لا تعتدوا " مفعوله ، أي الزموا ترك الاعتداء ، ويمكن أن يكون السؤال عن الآيات التسع والأحكام العامة جميعا ، وأخبروا عن إحداها ، وأضمروا عن أخراها على طريق التورية ، فأجابهم عن الأمرين وحذف الراوي الأول ، أو أجابهم عن المشكل أو المضمر ، وترك المشهور إما لظهوره ، أو على أسلوب الحكيم ؛ ولذا أذعنا له في الظاهر . ( قال ) صفوان ( فقبلا ) أي اليهوديان ( يديه ورجليه ) - صلى الله عليه وسلم - ( وقالا : نشهد أنك نبي ) إذ هذا العلم من الأمي معجزة ، لكن نشهد أنك نبي إلى العرب ( قال : ( فما يمنعكم ) فيه أن أقل الجمع اثنان ، أو المراد أنتما وقومكما ( أن تتبعوني ) بتشديد التاء ، وقيل : بالتخفيف أي من أن تقبلوا نبوتي بالنسبة إليكم وتتبعوني في الأحكام الشرعية التي هي واجبة عليكم ( قالا : إن داود - عليه الصلاة والسلام - دعا ربه أن لا يزال ) أي بأن لا ينقطع ( من ذريته نبي ) إلى يوم القيامة ، فيكون مستجابا ، فيكون من ذريته نبي ويتبعه اليهود ، وربما يكون لهم الغلبة والشوكة ( وإنا نخاف إن تبعناك أن تقتلنا اليهود ) أي فإن تركنا دينهم ، واتبعناك لقتلنا اليهود إذا ظهر لهم نبي وقوة ، وهذا افتراء محض على داود - عليه الصلاة والسلام - لأنه قرأ في التوراة والزبور بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - النبي ، وأنه خاتم النبيين ، وأنه ينسخ به الأديان ، فكيف يدعو بخلاف ما أخبر الله تعالى به من شأن محمد - صلى الله عليه وسلم ؟ . ولئن سلم فعيسى من ذريته ، وهو نبي باق إلى يوم الدين . ( رواه الترمذي ) وقال : حسن صحيح . ( وأبو داود والنسائي ) وكذا الحاكم وقال : صحيح لا يعرف له علة بوجه من الوجوه ولم يخرجاه .




الخدمات العلمية