الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                المظنة الثانية : الملامسة ، قال في الكتاب : مس أحد الزوجين صاحبه للذة من فوق ثوب ، أو من تحته ، أو قبلة في غير الفم يوجب الوضوء خلافا ح في اشتراطه التجرد ، والتعانق ، والتقاء الفرجين مع الانتشار ، ولمنع محمد بن الحسن إيجاب الملامسة مطلقا ، وخلافا ش في عدم اشتراط اللذة مع نقضه أصله بذوات المحارم . لنا : قوله تعالى : ( أو لامستم النساء ) وفي اشتراط اللذة ما في مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كنت أنام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ورجلاي في قبلته ، فإذا سجد غمزني ، فقبضت رجلي ، والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح .

                                                                                                                وفي الموطأ عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت كنت نائمة إلى جنب النبي [ ص: 226 ] - صلى الله عليه وسلم - ، ففقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الليل ، فلمسته بيدي فوقعت على أخمص قدميه ، الحديث .

                                                                                                                تمسك الحنفية بأن هذا حكم تعم به البلوى ، ولم ينقل عنه عليه السلام أنه قال : من لمس زوجته انتقض وضوءه بل نقل عنه عليه السلام أنه كان يقبل بعض زوجاته ، ولا يتوضأ ؛ نقله أبو داود ، والترمذي عن عائشة رضي الله عنها ، وقد قال ابن عباس : الإفضاء ، والتغشي ، والرفث ، والملامسة في كتاب الله تعالى كنايات عن الوطء ، ولأن السبب في الحقيقة إنما هو المذي ، ويمكن الوقوف عليه ، فلا حاجة إلى اعتبار مظنة له .

                                                                                                                والجواب عن الأول : أن تمسكهم بعموم البلوى هنا ، وفي مسألة الوضوء من مس الذكر بناء على أن كل ما تعم به البلوى يجب اشتهاره ، وإلا فهو غير مقبول ; لأن ما تعم به البلوى يكثر السؤال فيه فيكثر الجواب عنه فيشتهر ، وهم نقضوا هذه القاعدة بإيجاب الوضوء من الحجامة ، والدم السائل من الجسد ، وغيرهما ، وقد كان عليه السلام يتلو طول عمره ، ( أو لامستم النساء ) وهو مقطوع به متواتر .

                                                                                                                وعن الثاني : أن الحديث غير صحيح ؛ طعن فيه الترمذي ، وأبو داود ، وقال الدارقطني : هذه اللفظة لا تحفظ ، وإنما المحفوظ كان يقبل ، وهو صائم .

                                                                                                                وعن الثالث : أن قوله مدفوع بقول عائشة ، وعبد الله بن عمر ، وابن مسعود رضي الله عنهم أن القبلة توجب الوضوء .

                                                                                                                وعن الرابع : أن مظنة الشيء تعطي حكم ذلك الشيء ، وإن أمكن الوقوف عليه ؛ كالتقاء الختانين مظنة الإنزال أعطي حكمه ، والنوم مظنة الحدث وأعطي حكمه مع إمكان الوقوف عليه ، وعلى رأيهم المباشرة مع التجرد ، وما معه مظنة أيضا .

                                                                                                                [ ص: 227 ] ولا فرق عندنا بين أن يكون الملموس عضوا ، أو شعرا من زوجة ، أو أجنبية ، أو محرم ، وبين قليل المباشرة ، وغيرها ، وبين اليد ، والفم ، وسائر الأعضاء إذا وجدت اللذة في جميع ذلك .

                                                                                                                فروع ثمانية :

                                                                                                                الأول : في الجواهر : القبلة في الفم لا يشترط فيها اللذة لأنها لا تنفك عنها غالبا ، فأقيمت المظنة مقامها ، وإن لم يعلم وجودها كالمشقة في السفر لا نعتبرها مع وجود مظنتها ، وهي المسافة المحدودة لها ، وروي عنه اعتبارها . قال الباجي : وعليه أكثر الأصحاب ، والأول ظاهر الكتاب .

                                                                                                                الثاني : إذا وجد الملامس اللذة ، ولم يقصدها ، أو قصدها ، ولم يجدها ، فعليه الوضوء على المنصوص ، أما الأول : فلوجود اللذة ، وهي السبب ، وأما الثاني : قال صاحب الطراز : قال ابن القاسم : لأن القلب التذ لأجل قصده لذلك ، وهذا لا يستقيم ; لأن السبب هو اللذة لا إرادة اللذة ؛ ألا ترى أنه لا وضوء عليه إذا قصد مسها من فوق حائل كثيف . قال اللخمي : هذا يتخرج على رفض الطهارة .

                                                                                                                واستقرأ بعض المتأخرين عدم النقض هنا في مسألة الرفض ، وتعقب بالفرق بمقارنة الفعل .

                                                                                                                الثالث : قال صاحب الطراز : إذا كان اللمس من وراء حائل خفيف يصل بشرتها إلى بشرته وجب الوضوء خلافا ش لوجود اللذة ، وإن كان كثيفا قال مالك - رحمه الله - في العتبية والمجموعة : لا وضوء عليه ، وقاله ابن القاسم ، وسحنون ، وابن حبيب فيحمل قوله في الكتاب على هذا دفعا للتناقض قال اللخمي : أما إذا ضمها استوى الخفيف ، والكثيف .

                                                                                                                الرابع : في الجواهر : الملموس إذا وجد اللذة توضأ خلافا ش في أحد قوليه [ ص: 228 ] لأن الله تعالى إنما خاطب اللامس بقوله : ( أو لامستم النساء ) لاشتراكهما في اللذة فيشتركان في موجبها كالتقاء الختانين ، وإن لم يجد الملموس لذة فلا وضوء عليه إلا أن يقصد فيكون لامسا في الحكم .

                                                                                                                الخامس : قال : لو نظر فالتذ بمداومة النظر ، ولم ينتشر ذلك منه ، فلا وضوء عليه لعدم السبب الذي هو الملامسة ، وقال ابن بكير : يؤثر .

                                                                                                                السادس : الإنعاظ . قال صاحب الطراز : قال مالك - رحمه الله - : لا شيء عليه ; لأن العادة فيه غير منضبطة فيهمل بخلاف اللمس ، فإن غالبه المذي . قال اللخمي : قيل : عليه الوضوء ; لأن غالبه المذي ، وأرى أن يحمل على عادته ، فإن اختلفت عادته توضأ أيضا ، وإن أنعظ في الصلاة ، وعادته عدم المذي مضى عليها ، وإلا قطع إلا أن يكون ذلك الإنعاظ ليس بالبين ، فإن كان شأنه المذي بعد زوال الإنعاظ ، وأمن ذلك في الصلاة أتمها ، فإن تبين أن ذلك كان قبل قضى الصلاة ، وإن أشكل عليه جرى على الخلاف .

                                                                                                                السابع : قال صاحب الطراز : يجب الوضوء من مس ظفر الزوج ، والسن ، والشعر إذا التذ خلافا ش ، ولم يره مالك في العتبية في الشعر .

                                                                                                                والعجب من الشافعي - رحمه الله - أنه نقض الوضوء بمس أذن الميتة ، ولم ينقضه بمس أظفار أنامل الحية مع قوله إن شعر الميتة نجس ، وإن لم يكن حيا ; لأن كل متصل بالحية ، فهو على حكمها ، فما باله هنا لا يكون على حكمها لا سيما وهو لا يراعي اللذة ، وقد اتفقنا على أنه إذا قال : إن مسست امرأتي ، فهي طالق ، أو عبدي ، فهو حر ، فمس ظفرهما طلقت ، وعتق العبد .

                                                                                                                قاعدة أصولية يتخرج عليها فروع هذا الباب ، وغيره .

                                                                                                                وهي : أن الشرع إذا نصب سببا لحكم لأجل حكمة اشتمل عليها ذلك السبب هل يجوز التعليل بتلك الحكمة لأنها سبب جعل السبب سببا ، والأصل متقدم على الفرع أو لا يجوز ذلك ، وهو الصحيح عند العلماء ; لأن حكمة جعل السرقة سبب القطع صون الأموال ، وحكمة جعل الإحصان مع الزنا سبب الرجم [ ص: 229 ] صون الأنساب ، وحكمة جعل المسافة المعينة في السفر سبب القصر المشقة ، ونظائر ذلك كثيرة جدا مع انعقاد الإجماع على منع ترتيب أحكام هذه الأسباب بدونها ، وإن وجدت الحكم ، فكذلك هنا جعل الله تعالى اللمس سببا للوضوء لاشتماله على اللذة ، فهل يجوز اتباع اللذة على الإطلاق كما في التذكر ، والإنعاظ أو لا يراعى ذلك على الإطلاق حتى لا يوجب الوضوء من وراء حائل ، وإن رق ، أو يتوسط بين الرتبتين ، وهو ظاهر المذهب .

                                                                                                                تمهيد : يظهر منه مذهب مالك - رحمه الله - على الشافعية ، والحنفية .

                                                                                                                أما الحنفية : فلأن الله تعالى عطف الملامسة على المجيء من الغائط ، والذي يفعل في الغائط لا يوجب غسلا ، فتحمل على ما لا يوجب غسلا تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه ، ولأن الله تعالى قال : ( وإن كنتم جنبا فاطهروا ) فلو كان المراد بالملامسة الجماع لزم التكرار ، ويؤكد ذلك ما قاله صاحب الصحاح : إن اللمس اللمس باليد يقال : لمسه يلمسه بضم الميم في المضارع وبكسرها .

                                                                                                                وأما الشافعية ، فلأن أئمة اللغة قالوا : اللمس الطلب ، ومن ذلك قوله عليه السلام ( التمس ، ولو خاتما من حديد ) .

                                                                                                                وقوله تعالى حكاية عن الجان : ( وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا ) أي طلبناها .

                                                                                                                ولما كانت النساء تلمس طلبا للذة قال الله تعالى : ( أو لامستم النساء ) ، والأصل في الاستعمال الحقيقة فيكون هذا نصا على إبطال مذهب الشافعية ، والحنفية ، وعلى اشتراط اللذة ، والطلب .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية