الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وليس في قهقهة مصل ولا فيما مست النار وضوء لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكل كتف شاة فصلى ولم يتوضأ " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهما مسألتان :

                                                                                                                                            أحدهما : في القهقهة .

                                                                                                                                            [ ص: 203 ] والثانية : في أكل ما مست النار فجمع بينهما وعطف بالجواب عليهما ونحن نفردهما لاختلاف الكلام فيهما :

                                                                                                                                            أما القهقهة والضحك فقد يتنوع الضحك نوعين : تبسم وقهقهة ، فأما التبسم فلا يؤثر في الصلاة ولا في الوضوء إجماعا ، وأما القهقهة فإن كانت في غير الصلاة لم ينتقض الوضوء إجماعا وإن كانت في الصلاة بطلت الصلاة واختلفوا في انتقاض الوضوء بها . فذهب الشافعي إلى أنها لا تنقض الوضوء وبه قال من الصحابة عبد الله بن مسعود ، وجابر بن عبد الله ، وأبو موسى الأشعري ، ومن التابعين عطاء ، والزهري ، وعروة بن الزبير ، ومن الفقهاء مالك ، وأحمد ، وإسحاق ، وقال أبو حنيفة : " القهقهة في الصلاة تنقض الوضوء استدلالا برواية الحسن البصري عن أبي المليح بن أسامة عن أبيه قال : بينا نحن نصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل ضرير فوقع في حفرة فضحكنا منه فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوضوء وإعادة الصلاة من أولها ورواه أبو حنيفة عن منصور بن زاذان عن معبد الجهني ، وبما روى الحسن عن عمران بن الحصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من ضحك في الصلاة قهقهة فليعد الوضوء والصلاة ورواه الحسن عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ولأن كل فعل يقع تارة باختياره وتارة بغير اختياره كان حدثا كالبول والريح . قالوا : ولأن الطهارة عبادة وردت من الأكثر إلى الأقل في حال العذر فجاز أن تبطلها القهقهة كالصلاة ، ودليلنا ما روى [ ص: 204 ] الأعمش عن أبي سفيان عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " القهقهة في الصلاة يعيد الصلاة ولا يعيد الوضوء . وروى سهل بن معاذ عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الضاحك في صلاته والمتكلم سواء " ومعلوم أن الكلام يبطل الصلاة ولا ينقض الوضوء فكذلك الضحك ولأن كل ما لم يكن حدثا في غير الصلاة لم يكن حدثا في الصلاة كالكلام طردا وسائر الأحداث عكسا ولأن كل معنى لم ينتقض الوضوء بقليله لم ينتقض الوضوء بكثيره كالمشي .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن حديث الحسن عن أبي المليح فهو أن رواية الحسن بن دينار عن الحسن ، وكان الحسن بن دينار ضعيفا ، ومعبد الجهني الذي أسنده أبو حنيفة عنه تابعي ولا صحبة له ، وكان حديثه مرسلا ، ثم يحمل إما على الاستحباب زجرا وتغليظا وإما على أنه سمع منهم صوتا .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن حديث الحسن عن عمران وأنس فهو أن حديث عمران رواه عمر بن قيس عن عمرو بن عبيد عن الحسن ، وكان عمر بن قيس ضعيفا متروك الحديث .

                                                                                                                                            وأما حديث أنس فلم يرد إلا من طريق سفيان بن محمد الفزاري وكان ضعيفا منكر الحديث على أن أحاديث الحسن ضعيفة عند أصحاب الحديث وإن كان بمكانة من الثقة والدين لأنه كان يروي بالبلاغات والمراسلات ، ويرى ذلك مذهبا ولذلك قال في المسح على الخفين أخبرني به سبعون بدريا ، ولم يلق بدريا غير علي بن أبي طالب وسمع منه حديثا واحدا بالوضوء وهو صغير ، وكان تأويل ذلك منه أنه بلغني عن سبعين بدريا وقد قيل إن روايته خبر القهقهة عن أبي العالية الرياحي ، فقد قال بعض أصحاب الحديث : أخبار الرياحي رياح كلها ، وقال محمد بن سيرين : حدثوني عمن شئتم إلا عن الحسن وأبي العالية [ ص: 205 ] فإنهما لا يباليان عمن أخذا ، ثم ولو سلم الحديث لكان محمولا على الإرشاد والندب ، كما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من غضب فليتوضأ " وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من حلف باللات والعزى فعليه الوضوء " وأما الجواب عن قياسهم أنه يقع تارة باختيار وتارة بغير اختيار فمنتقض بالبكاء ، ثم المعنى في الأصل أنه خارج من السبيلين ، أو أن قليله ينقض الوضوء . وأما الجواب عن قياسهم على الصلاة ، فالمعنى في الصلاة أنها تبطل بالكلام ، فبطلت بالقهقهة وليس كذلك الوضوء .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية