الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              فصل

              وإذا ثبت هذا انبنى عليه قواعد :

              منها : أنه لا يستمر إطلاق القول بأن الأصل في المنافع الإذن ، وفي المضار المنع ، كما قرره الفخر الرازي; إذ لا يكاد يوجد انتفاع حقيقي ولا ضرر حقيقي ، وإنما عامتها أن تكون إضافية .

              والمصالح والمفاسد إذا كانت راجعة إلى خطاب الشارع - وقد علمنا من خطابه أنه يتوجه بحسب الأحوال والأشخاص والأوقات حتى يكون الانتفاع المعين مأذونا فيه في وقت أو حال أو بحسب شخص ، وغير مأذون فيه إذا كان [ ص: 67 ] على غير ذلك ; فكيف يسوغ إطلاق هذه العبارة أن الأصل في المنافع الإذن ، وفي المضار المنع ؟

              وأيضا; فإذا كانت المنافع لا تخلو من مضار وبالعكس ، فكيف يجتمع الإذن والنهي على الشيء الواحد ، وكيف يقال أن الأصل في الخمر مثلا الإذن من حيث منفعة الانتشاء ، والتشجيع ، وطرد الهموم ، والأصل فيها أيضا المنع من حيث مضرة سلب العقل والصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، وهما لا ينفكان ، أو يقال : الأصل في شرب الدواء المنع لمضرة شربه لكراهته وفظاعته ومرارته ، والأصل فيه الإذن لأجل الانتفاع به وهما غير منفكين فيكون الأصل في ذلك كله الإذن وعدم الإذن معا ، وذلك محال فإن قيل المعتبر عند التعارض الراجح فهو الذي ينسب إليه الحكم ، وما سواه في حكم المغفل المطرح .

              فالجواب أن هذا مما يشد ما تقدم ; إذ هو دليل على أن المنافع ليس [ ص: 68 ] أصلها الإباحة بإطلاق ، وأن المضار ليس أصلها المنع بإطلاق ، بل الأمر في ذلك راجع إلى ما تقدم ، وهو ما تقوم به الدنيا للآخرة ، وإن كان في الطريق ضرر ما متوقع ، أو نفع ما مندفع .

              ومنها أن القرافي أورد إشكالا في المصالح والمفاسد ولم يجب عنه ، وهو عنده لازم لجميع العلماء المعتبرين للمصالح والمفاسد ، فقال :

              " المراد بالمصلحة والمفسدة إن كان مسماهما كيف كانا; فما من مباح إلا وفيه في الغالب مصالح ومفاسد ، فإن أكل الطيبات ولبس اللينات فيها مصالح الأجساد ولذات النفوس ، وآلام ومفاسد في تحصيلها ، وكسبها ، وتناولها ، وطبخها ، وإحكامها ، وإجادتها بالمضغ ، وتلويث الأيدي . . . ، إلى غير ذلك ، مما لو خير العاقل بين وجوده وعدمه; لاختار عدمه فمن يؤثر وقيد النيران وملابسة الدخان وغير ذلك ؟ فيلزم أن لا يبقى مباح ألبتة " .

              وإن أرادوا ما هو أخص من مطلقهما مع أن مراتب الخصوص متعددة; فليس بعضها أولى من بعض ، ولأن العدول عن أصل المصلحة والمفسدة تأباه قواعد الاعتزال; فإنه سفه .

              ولا يمكنهم أن يقولوا : إن ضابط ذلك أن كل مصلحة توعد الله على [ ص: 69 ] تركها ، وكل مفسدة توعد الله على فعلها هي المقصودة ، وما أهمله الله تعالى غير داخل في مقصودنا ، فنحن نريد مطلق المعتبر من غير تخصيص فيندفع الإشكال; لأنا نقول : الوعيد عندكم ، والتكليف تابع للمصلحة والمفسدة ، ويجب عندكم بالعقل أن يتوعد الله على ترك المصالح ، وفعل المفاسد ، فلو استفدتم المصالح والمفاسد المعتبرة من الوعيد ، لزم الدور ، ولو صحت الاستفادة في المصالح والمفاسد من الوعيد للزمكم أن تجوزوا أن يرد التكليف بترك المصالح وفعل المفاسد ، وتنعكس الحقائق حينئذ; فإن المعتبر هو التكليف; فأي شيء كلف الله به كان مصلحة ، وهذا يبطل أصلكم " .

              قال : وأما حظ أصحابنا من هذا الإشكال ، فهو أن يتعذر عليهم أن يقولوا : إن الله تعالى راعى مطلق المصلحة ومطلق المفسدة على سبيل التفضيل; لأن المباحات فيها ذلك ولم يراع ، بل يقولون : إن الله ألغى بعضها [ ص: 70 ] في المباحات ، واعتبر بعضها ، وإذا سئلوا عن ضابط المعتبر مما ينبغي أن لا يعتبر عسر الجواب ، بل سبيلهم استقراء المواقع فقط ، وهذا وإن كان يخل بنمط من الاطلاع على بعض أسرار الفقه ، غير أنهم يقولون : ويفعل الله ما يشاء [ إبراهيم : 27 ] ، و يحكم ما يريد [ المائدة : 1 ] ويعتبر الله ما يشاء ، ويترك ما يشاء لا غرو في ذلك ، وأما المعتزلة الذين يوجبون ذلك عقلا; فيكون هذا الأمر عليهم في غاية الصعوبة; لأنهم إذا فتحوا هذا الباب تزلزلت قواعد الاعتزال " . هذا ما قاله القرافي .

              وأنت إذا راجعت أول المسألة وما تقدم قبلها ، لم يبق لهذا الإشكال موقع ، أما على مذهب الأشاعرة ، فإن استقراء الشريعة دل على ما هو المعتبر مما ليس بمعتبر ، لكن على وجه يحصل ضوابط ذلك ، والدليل القاطع في ذلك استقراء أحوال الجارين على جادة الشرع من غير إخلال بالخروج في [ ص: 71 ] جريانها على الصراط المستقيم ، وإعطاء كل ذي حق حقه من غير إخلال بنظام ، ولا هدم لقاعدة من قواعد الإسلام ، وفي وقوع الخلل فيها بمقدار ما يقع من المخالفة في حدود الشرع ، وذلك بحسب كل باب من أبواب الشرع ، وكل أصل من أصول التكليف ، فإذا حصل ذلك للعلماء الراسخين; حصل لهم به ضوابط في كل باب على ما يليق به وهو مذكور في كتبهم ، ومبسوط في علم أصول الفقه .

              وأما على مذهب المعتزلة; فكذلك أيضا لأنهم إنما يعتبرون المصالح والمفاسد بحسب ما أداهم إليه العقل في زعمهم ، وهو الوجه الذي يتم به صلاح العالم على الجملة ، والتفصيل في المصالح ، أو ينخرم به في المفاسد ، وقد جعلوا الشرع كاشفا لمقتضى ما ادعاه العقل عندهم بلا زيادة ولا نقصان ، فلا فرق بينهم وبين الأشاعرة في محصول المسألة ، وإنما اختلفوا في المدرك ، [ ص: 72 ] واختلافهم فيه لا يضر في كون المصالح معتبرة شرعا ، ومنضبطة في أنفسها .

              وقد نزع إلى هذا المعنى أيضا في كلامه على العزيمة والرخصة ، حين فسرها الإمام الرازي بأنها " جواز الإقدام مع قيام المانع " ; قال :

              " هو مشكل; لأنه يلزم أن تكون الصلوات والحدود والتعازير والجهاد والحج رخصة; إذ يجوز الإقدام على ذلك كله ، وفيه مانعان : ظواهر النصوص المانعة من إلزامه; كقوله تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] ، وفي الحديث : لا ضرر ولا ضرار وذلك مانع من وجوب [ ص: 73 ] [ ص: 74 ] [ ص: 75 ] هذه الأمور ، والآخر أن صورة الإنسان مكرمة ، لقوله : ولقد كرمنا بني آدم [ الإسراء : 70 ] ، لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم [ التين : 4 ] ، وذلك يناسب أن لا يهلك بالجهاد ، ولا يلزمه المشاق والمضار .

              وأيضا الإجارة رخصة من بيع المعدوم ، والسلم كذلك ، والقراض والمساقاة رخصتان لجهالة الأجرة ، والصيد رخصة لأكل الحيوان بدمه ، ولم تعد منها ، واستقراء الشريعة يقتضي أن لا مصلحة إلا وفيها مفسدة ، وبالعكس ، وإن قلت على العبد كالكفر والإيمان; فما ظنك بغيرهما ؟

              وعلى هذا ما في الشريعة حكم إلا وهو مع المانع الشرعي ; لأنه لا يمكن أن يراد بالمانع ما سلم عن المعارض الراجح; فإن أكل الميتة وغيره [ ص: 76 ] وجد فيه معارض راجح على مفسدة الميتة; فحينئذ ما المراد إلا المانع المغمور بالراجح ، وحينئذ تندرج جميع الشريعة; لأن كل حكم فيه مانع مغمور بمعارضه " .

              ثم ذكر أن الذي استقر عليه حاله في شرحي " التنقيح " و " المحصول " العجز عن ضبط الرخصة .

              وما تقدم إن شاء الله تعالى يغني في الموضع ، مع ما ذكر في الرخصة في كتاب الأحكام .

              ومنها : أن هذه المسألة إذا فهمت حصل بها فهم كثير من آيات القرآن وأحكامه; كقوله تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا [ البقرة : 29 ] .

              وقوله : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه [ الجاثية : 13 ] .

              وقوله : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق الآية [ الأعراف : 32 ] .

              [ ص: 77 ] وما كان نحو ذلك من أنها ليست على مقتضى ظاهرها بإطلاق ، بل بقيود تقيدت بها ، حسب ما دلت عليه الشريعة في وضع المصالح ودفع المفاسد ، والله أعلم .

              ومنها : أن بعض الناس قال : إن مصالح الدار الآخرة ومفاسدها لا تعرف إلا بالشرع ، وأما الدنيوية; فتعرف بالضرورات ، والتجارب والعادات ، والظنون المعتبرات .

              قال : ومن أراد أن يعرف المناسبات في المصالح والمفاسد راجحها من مرجوحها ، فليعرض ذلك على عقله ، بتقدير أن الشارع لم يرد به ، ثم يبني عليه الأحكام ، فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك إلا التعبدات التي لم يوقف على مصالحها أو مفاسدها . هذا قوله .

              وفيه بحسب ما تقدم نظر ، أما أن ما يتعلق بالآخرة لا يعرف إلا بالشرع; فكما قال . وأما ما قال في الدنيوية فليس كما قال من كل وجه بل ذلك من بعض الوجوه دون بعض ، ولذلك لما جاء الشرع بعد زمان فترة ; تبين به ما كان عليه أهل الفترة من انحراف الأحوال عن الاستقامة ، وخروجهم عن مقتضى العدل في الأحكام .

              ولو كان الأمر على ما قال بإطلاق; لم يحتج في الشرع إلا إلى بث مصالح الدار الآخرة خاصة ، وذلك لم يكن ، وإنما جاء بما يقيم أمر الدنيا وأمر الآخرة معا ، وإن كان قصده بإقامة الدنيا للآخرة; فليس بخارج عن كونه [ ص: 78 ] قاصدا لإقامة مصالح الدنيا; حتى يتأتى فيها سلوك طريق الآخرة ، وقد بث في ذلك من التصرفات ، وحسم من أوجه الفساد التي كانت جارية ما لا مزيد عليه; فالعادة تحيل استقلال العقول في الدنيا بإدراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل ، اللهم إلا أن يريد هذا القائل أن المعرفة بها تحصل بالتجارب وغيرها ، بعد وضع الشرع أصولها ، فذلك لا نزاع فيه .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية