الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      وأما الأدلة فلنا مسالك :

                                                      الأول : دلالة القرآن : ومن أشهرها قوله تعالى : { فاعتبروا يا أولي الأبصار } وقد سئل أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب وهو من أئمة اللسان عن " الاعتبار " فقال : أن يعقل الإنسان الشيء فيعقل مثله . فقيل : أخبرنا عمن رد حكم حادثة إلى نظيرها أيكون معتبرا ؟ قال : نعم هو مشهور في كلام العرب . حكاه البلعمي في كتاب " الغرر في الأصول " وقال بعضهم : رأيت القاشاني وابن سريج قد صنفا في القياس نحو ألف ورقة ، هذا في نفيه ، وهذا في إثباته . اعتمد [ ص: 29 ] القاشاني فيه على قوله : { أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } واعتمد ابن سريج في إثباته على قوله : { فاعتبروا يا أولي الأبصار } ونقل القاضي أبو بكر في " التقريب " اتفاق أهل اللغة على أن الاعتبار اسم يتناول تمثيل الشيء بغيره ، واعتباره به ، وإجراء حكمه عليه ، والتسوية بينهما في ذلك . وإنما سمي الاتعاظ والفكر اعتبارا ; لأنه مقصود به التسوية بين الأمر ومثله ، والحكم فيه بحكم نظيره ، ولولا ذلك لم يحصل الاتعاظ والازدجار عن الذنب بنزول العذاب والانتقام بأهل الخلاف والشقاق ، ثم حكي ما سبق عن ثعلب . وزعم ابن حزم أن المراد بالاعتبار التعجب بدليل سياق الآية ، وافقه ابن عبد السلام فقال في " القواعد " : من العجيب استدلالهم بهذه الآية على جواز القياس مع أن الاعتبار في الآية يراد به الاتعاظ والازدجار ، والمطلق إذا عمل به في صورة خرج عن أن يكون حجة في غيرها بالاتفاق قال : وهذا تحريف لكلام الله عز وجل عن مراده إلى غير مراده ، ثم كيف ينتظم الكلام مع كونه واعظا بما أصاب بني النضير من الجلاء أن يقرن ذلك الأمر بقياس الدخن على البر والحمص على الشعير ، فإنه لو صرح بهذا لكان من ركيك الكلام وإدراجا له في غير موضعه وقرانا بين المنافرات انتهى . والعجب من الشيخ ، فإن العبرة بعموم اللفظ ، فإن منع قلنا : هذا يرجع إلى قياس العلة لأن إخراجهم من ديارهم وتعذيبهم قد رتب على المعصية فالمعصية علة لوقوع العذاب ، فكأنه قال : تقعوا في المعصية فيقع بكم العذاب ، قياسا على أولئك ، فهو قياس نهي على نهي ، بعلة العذاب المترتبة على المخالفة . قال الماوردي : وفي الاعتبار وجهان : [ ص: 30 ] أحدهما : أنه مأخوذ من العبور ، وهو يجاوز المذكور إلى غير المذكور ، وهذا هو القياس . والثاني : من العبرة وهو اعتبار الشيء بمثله ، ومنه عبر الخراج أي قياس خراج عام بخراج غيره في المماثلة . وفي كلا الوجهين دليل القياس لأنه أمر أن يستدل بالشيء على نظيره ، وبالشاهد على الغائب .

                                                      واحتج الشافعي رحمه الله تعالى في " الرسالة " بقوله تعالى : { فجزاء مثل ما قتل من النعم } وقال : فهذا تمثيل الشيء بعدله وقال : { يحكم به ذوا عدل منكم } وأوجب المثل ولم يقل أي مثل فوكل ذلك إلى اجتهادنا ، وأمرنا بالتوجه إلى القبلة بالاستدلال فقال : { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } واحتج ابن سريج في الودائع بقوله تعالى : { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } فأولو الأمر هم العلماء ، والاستنباط هو القياس . فصارت هذه الآية كالنص في إثباته . وقوله تعالى : { إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها } الآية ، لأن القياس تشبيه الشيء فإذا جاز من فعل من لا تخفى عليه خافية ليريكم وجه ما تعلمون فهو ممن لا يخلو من الجهالة والنقص أجوز .

                                                      واحتج غيره بقوله تعالى : { قال من يحيي العظام وهي رميم ، قل يحييها الذي أنشأها أول مرة } فهذا صريح في إثبات الإعادة قياسا . واحتج أصحابنا بقوله تعالى : { لعلمه الذين يستنبطونه منهم } قال : والاستنباط مختص بإخراج المعاني من ألفاظ النصوص ، مأخوذ من استنباط الماء : إذا استخرج من معدنه ، فقد جعل الله للأحكام أعلاما [ ص: 31 ] من الأسماء ، والمعاني بالألفاظ ظاهرة ، والمعاني علل باطنة ، فيكون بالاسم مقصورا عليه وبالمعنى متعديا . فصار معنى الاسم أخص بالحكم من الاسم ، فعموم المعنى بالتعدي ، وخصوص الاسم بالتوقيف وإن كانت تابعة للأسماء لأنها مشروعة فيها ، فالأسماء تابعة لمعانيها لتعديها إلى غيرها . واحتج ابن تيمية بقوله تعالى : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } وتقريره أن العدل : هو التسوية بين مثلين في الحكم فيتناوله عموم الآية .

                                                      الثاني دلالة السنة :

                                                      كحديث معاذ " أجتهد برأيي ولا آلو " ، وقال النبي في خبر المرأة : { أرأيت لو كان على أبيك دين } ، { وقال لرجل سأله أيقضي أحدنا شهوته ويؤجر عليه ؟ قال أرأيت لو وضعها في حرام كان عليه وزر ؟ قال نعم ، قال فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر } ، { وقال لرجل من فزارة أنكر ولده لما جاءت به أسود هل لك من إبل قال : نعم ، قال : ما ألوانها ؟ قال : حمر ، قال : فيها من أورق ؟ قال : نعم ، قال : فمن أين ؟ قال : لعله نزعه عرق قال : وهذا لعله نزعه عرق } . قال المزني : فأبان له بما يعرف أن الحمر من الإبل تنتج الأورق فكذلك المرأة [ ص: 32 ] البيضاء تلد الأسود ، فقاس أحد نوعي الحيوان على الآخر ، وهو قياس في الطبيعيات لأن الأصل ليس فيه نسب حتى نقول قياس في إثبات النسب ، { وقال لعمر ، وقد قبل امرأته وهو صائم فقال : أرأيت لو تمضمضت ومججته ؟ فقال : لا بأس فقال : ففيم ؟ ، } قال المزني : فبين له بذلك أنه لا شيء عليه كما لا شيء في المضمضة ، وأنه صلى الله عليه وسلم قال : { محرم الحلال كمحلل الحرام } وهو كثير .

                                                      وصنف الناصح الحنبلي جزءا في أقيسة النبي . وثبت ذلك عن الصحابة كقول عمر لأبي موسى : واعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور عندك . وقد تكلم الصحابة في زمن النبي في [ ص: 33 ] العلل ، ففي البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى لما نهى عن تحريم الحمر يوم خيبر قال فتحدثنا أنه إنما نهى عنها لأنها لم تخمس وقال بعضهم نهى عنها ألبتة لأنها كانت تأكل العذرة .

                                                      الثالث : إجماع الصحابة : فإنهم اتفقوا على العمل بالقياس ، ونقل ذلك عنهم قولا وفعلا .

                                                      قال ابن عقيل الحنبلي : وقد بلغ التواتر المعنوي عن الصحابة باستعماله ، وهو قطعي .

                                                      وقال الهندي : دليل الإجماع هو المعول عليه جماهير المحققين من الأصوليين ، وقال ابن دقيق العيد : عندي أن المعتمد اشتهار العمل بالقياس في أقطار الأرض شرقا وغربا قرنا بعد قرن عند جمهور الأمة إلا عند شذوذ متأخرين قال : وهذا من أقوى الأدلة . وقال ابن برهان : أوجز بعض العلماء العبادة فقال : انعقد الإجماع على أن التعبد بالدليل المقطوع بدليله جائز ، فكذلك ينبغي أن يجوز التعبد بالقياس المظنون دليله .

                                                      الرابع : طريق العقل . وهو أن النصوص لا تفي بالأحكام لأنها متناهية والحوادث غير [ ص: 34 ] متناهية ، فلا بد من طريق آخر شرعي يضاف إليه ، لكن لهم أن يمنعوا تناهي النصوص فإن المعنى إذا ظهر تناول ذلك الفرع على سبيل العموم في جميع الأذهان ، فإن أفراد العموم لا تتناهى ، فإذا تصور عدم التناهي في الألفاظ ففي المعاني أولى ، قال القفال : ولأنه لا حادثة إلا ولله فيها حكم اشتمل القرآن على بيانه لقوله تعالى : { ما فرطنا في الكتاب من شيء } ورأينا المنصوص لم يحط بجميع أحكام الحوادث فدل على أنا مأمورون بالاعتبار والقياس ، ونحوه قول المزني في كتاب " إثبات القياس " : لو لم يكن للنظير حكم نظيره في الحلال والحرام لبطل القياس ، ولما جاز لأحد أن يقول إلا بنص كتاب أو سنة ، وكان ما اختلف فيه مهملا لا حكم له ، وهذا غير جائز .

                                                      قال المزني في كتاب " إثبات القياس " : تعلق المانعون بآثار وردت في ذم الرأي والقياس ، وإنما هي عندما رأى أهل البدع الذين ابتدعوا في الدين رأيا وسموا فروعه قياسا ، وأغفلوا كشف القول في الرأي الموافق للكتاب والسنة والتمثيل عليهما ، غير أنه كان لطيفا دقيقا يحتاج إلى حدة العقول ومعرفة معاني الأصول ، { كتقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا على الاجتهاد على أصل الكتاب والسنة } ، وقول الصديق رضي الله عنه في قضية الطاعون : أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديا .

                                                      وعلى المذموم يحمل [ ص: 35 ] قوله صلى الله عليه وسلم : { اتخذ الناس رءوسا جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا } والجمع بين الأدلة أولى من تعطيل بعضها .

                                                      قال ابن القفال : وقد قيل : إن داود سأل المزني عن القياس أهو أصل أم الفرع فأجابه المزني : إن قلت القياس أصل أو فرع ، أو أصل وفرع ، أو لا أصل ولا فرع لم تقدر على شيء ، وإنما عنى به أنه أصل لأن الله تعالى أمر به .

                                                      قال ابن القطان : هو فرع بمعنى أن الله تعالى نبه عليه بغيره ، وهو أصل وفرع باعتبارين لما عرفت أنه فرع لغيره الذي عرف منه وهو الكتاب والسنة . ومعنى قوله " لا أصل ولا فرع " أنه فعل القائس .

                                                      وقال أبو بكر الرازي : سأل داود القائسين سؤالا دل على جهله بمعنى القياس فقال : خبروني عن القياس أصل هو أم فرع ؟ فإن كان أصلا فلا ينبغي أن يقع فيه خلاف ، وإن كان فرعا ففرع على أي أصل . قال الرازي : والقياس إنما هو فعل القائس ولا يجوز أن يقال لفعل القائس : إنه أصل أو فرع . وإنما وجه تصحيح السؤال أن يقول : خبروني عن وجوب القول بالقياس ، أو الحكم بجواز القياس أهو أصل أم فرع ؟ فيكون الجواب عنه : أن القياس أصل بما بني عليه ، وفرع على ما بني عليه ، فأصله الكتاب والسنة والإجماع ، وفرعه سائر الحوادث القياسية التي لا توقيف فيها ولا إجماع . وقال ابن سريج : في كتاب " إثبات القياس " قال بعضهم : خبرونا عن القياس فرض هو أو ندب ، فإن قلتم ندب فقد أوجبتم التشريع في الدين ، وإن قلتم فرض فما وجدنا ذلك . قلنا : بل فرض ، لأن الله تعالى أمر بالنفقة على الزوجة وبالإطعام والصيام على قاتل الصيد وبقبول الجزية ولم يبين ذلك فوجب النظر فيه قال : وحقيقة القياس فعل أمر الله جل ذكره به في وقت كما أمر ببر الوالدين في وقت ، فلا يسمى القياس أصلا ولا فرعا لذلك .

                                                      [ ص: 36 ] تنبيهات الأول

                                                      حرر الهندي موضع الخلاف فقال : إذا علمنا أن الحكم في محل الوفاق معلل بكذا ، أو علمنا حصول الوصف مع جميع ما يعتبر في إفضائه لذلك الحكم في صورة النزاع علمنا حصول مثل ذلك الحكم في صورة النزاع فهذا النوع من القياس مما لا نزاع فيه بين العقلاء بل الكل أطبقوا على حجيته ، فأما إذا كانت هاتان المقدمتان ظنيتين ، أو إحداهما ظنية ، كان حصول ذلك الحكم في صورة النزاع ظنا لا محالة . وهذا لا نزاع في أنه لا يفيد العلم والخبر بالنتيجة ، بل إن كان في الأمور الدنيوية فقد اتفقوا على وجوب العمل به .

                                                      وأما في الأمور الشرعية فقد نقل الإمام الرازي أن هذا محل الخلاف ، وكلام الغزالي يقتضي التفصيل بين ما إذا كانتا ظنيتين فكذلك ، أو إحداهما ظنية والأخرى قطعية ، فليس من محل الخلاف أيضا على معنى ما إذا كانت الأولى قطعية ، أعني كون الحكم معللا بكذا ، والثانية ، أعني تحقيقها في صورة النزاع ظنية ، فهذا محل وفاق . أما إذا كانت هي ظنية سواء كانت المقدمة الثانية قطعية أو ظنية فإنه من محل الخلاف ، وكلام الإمام يقتضي أن الكل من محل الخلاف .

                                                      الثاني : أفرط في القياس فرقتان : المنكر له ، والمسترسل فيه ، كغلاة أهل [ ص: 37 ] الرأي . قال ابن المنير : وما شبهت تصرف المجتهدين بالعقول في الأحكام الشرعية إلا بتصرفهم في الأفعال الوجودية : أمر بين أمرين ، لا جبر ولا تفويض ، فمن زعم أن الأحكام كلها تعبدية لا مجال للقياس فيها ألحقه بجحود الجبرية ، ومن زعم أنها قياسية محضة وأطلق لسانه في التصرف ألحقه بتهور المعتزلة ، والحق في التوسط { وكان بين ذلك قواما } قلت : ومن البلية اقتصار كثير من الفقهاء على الاستدلال على القياس وعدم بحثهم عن النص فيها وهو موجود لو تطلبوه .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية