الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم جواب لكلمتهم الشنعاء وبيان لما كان الموجب إمهالهم وعدم إجابة دعائهم الذي قصدوا به ما قصدوا، واللام هي التي تسمى لام الجحود ولام النفي لاختصاصها بمنفي كان الماضية لفظا أو معنى، وهي إما زائدة أو غير زائدة والخبر محذوف، أي: ما كان الله مريدا لتعذيبهم، وأيا ما كان فالمراد تأكيد النفي إما على زيادتها فظاهر، وإما على عدم زيادتها، وجعل الخبر ما علمت فلأن نفي إرادة الفعل أبلغ من نفيه، وقيل في وجه إفادة اللام تأكيد النفي هنا أنها هي التي في قولهم: أنت لهذه الخطة. أي مناسب لها وهي تليق بك، ونفي اللياقة أبلغ من نفي أصل الفعل ولا يخلو عن حسن. وإن قيل: إنه تكلف لا حاجة إليه بعد ما بينه النحاة في وجه ذلك، وحمل غير واحد العذاب على عذاب الاستئصال، واعترض بأنه لا دليل على هذا التقييد مع أنه لا يلائمه المقام وأجيب بمنع عدم الملاءمة، بل من أمعن النظر في كلامهم رآه مشعرا بطلب ذلك، والدليل على التقييد أنه وقع عليهم العذاب والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيهم؛ كالقحط فعلم أن المراد به عذاب الاستئصال، والقرينة عليه تأكيد النفي الذي يصرفه إلى أعظمه، فالمراد من الآية الإخبار بأن تعذيبهم عذاب استئصال، والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم بين أظهرهم خارج عن عادته تعالى غير مستقيم في حكمه وقضائه، والمراد بالاستغفار في قوله سبحانه: وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون إما استغفار من بقي بينهم من المؤمنين المستضعفين حين هاجر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وروي هذا عن الضحاك، واختاره الجبائي، وقال الطيبي: إنه أبلغ لدلالته على استغفار الغير مما يدفع به العذاب عن أمثال هؤلاء الكفرة، وإسناد الاستغفار إلى ضمير الجميع لوقوعه فيما بينهم ولجعل ما صدر عن البعض كما قيل بمنزلة الصادر عن الكل، فليس هناك تفكيك للضمائر كما يوهمه كلام ابن عطية.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما دعاء الكفرة بالمغفرة وقولهم: غفرانك فيكون مجرد طلب المغفرة منه تعالى مانعا من عذابه جل شأنه ولو من الكفرة، وروي هذا عن يزيد بن رومان ومحمد بن قيس قالا: إن قريشا لما قالوا ما قالوا ندموا حين أمسوا فقالوا:

                                                                                                                                                                                                                                      غفرانك اللهم، وأما التوبة والرجوع عن جميع ما هم عليه من الكفر وغيره على معنى: لو استغفروا لم يعذبوا كقوله تعالى: وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون وروي هذا عن السدي: وقتادة [ ص: 201 ] وابن زيد، وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كل من الأقوال الثلاثة، وأيا ما كان فالجملة الاسمية في موضع الحال إلا أن القيد مثبت على الوجهين الأولين منفي على الوجه الأخير، ومبنى الاختلاف في ذلك ما نقل عن السلف من الاختلاف في تفسيره، والقاعدة المقررة بين القوم في القيد الواقع بعد الفعل المنفي، وحاصلها على ما قيل: إن القيد في الكلام المنفي قد يكون لتقييد النفي وقد يكون لنفي التقييد بمعنى انتفاء كل من الفعل والقيد أو القيد فقط أو الفعل فقط، وقيل: إن الدال على انتفاء الاستغفار هنا على الوجه الأخير القرينة والمقام لا نفس الكلام وإلا لكان معنى: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم نفي كونه فيهم لأن أمر الحالية مشترك بين الجملتين. وأطال الكلام في نفي تساوي الجملتين سؤالا وجوابا، ثم تكلف للتفرقة بما تكلف، واعترض عليه بما اعترض، والظاهر عندي عدم الفرق في احتمال كل من حيث إنه كلام فيه قيد توجه النفي إلى القيد.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن هنا قال بعضهم: إن المعنى الأولى: لو كنت فيهم لم يعذبوا كما قيل في معنى الثانية: لو استغفروا لم يعذبوا، ويكون ذلك إشارة إلى أنهم عذبوا بما وقع لهم في بدر لأنهم أخرجوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من مكة ولم يبق فيهم فيها إلا أن هذا خلاف الظاهر ولا يظهر عليه كون الآية جوابا لكلمتهم الشنعاء، وعن ابن عباس أن المراد بهذا الاستغفار استغفار من يؤمن منهم بعد، أي: وما كان الله معذبهم وفيهم من سبق له من الله تعالى العناية أنه يؤمن ويستغفر كصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وأضرابهم، وعند مجاهد أن المراد به استغفار من في أصلابهم ممن علم الله تعالى أنه يؤمن، أي: ما كان الله معذبهم وفي أصلابهم من يستغفر وهو كما ترى، ويظهر لي من تأكيد النفي في الجملة الأولى وعدم تأكيده في الجملة الثانية أن كون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيهم أدعى حكمة لعدم التعذيب من الاستغفار، وحمل بعضهم التعذيب المنفي في الجملة الثانية بناء على الوجه الأخير على ما عدا تعذيب الاستئصال، وحمل الأول على التعذيب الدنيوي والثاني على الأخروي ليس بشيء.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية