الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ومن أغمي عليه فأهل عنه رفقاؤه جاز عند أبي حنيفة ) رحمه الله ( وقالا : لا يجوز ، ولو أمر إنسانا بأن يحرم عنه إذا أغمي عليه أو نام فأحرم المأمور عنه صح ) بالإجماع [ ص: 511 ] حتى إذا أفاق أو استيقظ وأتى بأفعال الحج جاز . لهما أنه لم يحرم بنفسه ولا أذن لغيره به ، وهذا لأنه لم يصرح بالإذن والدلالة تقف على العلم ، وجواز الإذن به لا يعرفه كثير من الفقهاء فكيف يعرفه العوام ، بخلاف ما إذا أمر غيره بذلك صريحا . وله أنه لما عاقدهم عقد الرفقة فقد استعان بكل واحد منهم فيما يعجز عن مباشرته بنفسه . والإحرام هو المقصود بهذا السفر فكان الإذن به ثابتا دلالة ، والعلم ثابت نظرا إلى الدليل والحكم يدار عليه .

التالي السابق


( قوله ومن أغمي عليه فأهل عنه رفقاؤه جاز ) الرفيق قيد عند بعضهم وليس بقيد عند آخرين ، حتى لو أهل غير رفقائه عنه جاز وهو الأولى لأن هذا من باب الإعانة لا الولاية ، ودلالة الإعانة قائمة عند كل من علم [ ص: 511 ] قصده رفيقا كان أو لا .

وأصله أن الإحرام شرط عندنا اتفاقا كالوضوء وستر العورة وإن كان له شبه الركن فجازت النيابة فيه بعد وجود نية العبادة منه عند خروجه من بلده ، وإنما اختلفوا في هذه المسألة بناء على أن المرافقة هل تكون أمرا به دلالة عند العجز عنه أو لا ، فقالا : لا ، لأن المرافقة إنما تراد لأمور السفر لا غير فلا تتعدى إلى الإحرام ، بل الظاهر منع غيره عنه ليتولاه بنفسه فيحوز ثواب ذلك ، ولأن دلالة الإنابة فيه إنما تثبت إذا كان [ ص: 512 ] معلوما عند الناس .

وصحة الإذن بالإحرام عن غيره لا يعرفه كثير من المتفقهة فكيف بالعامي وهذا الوجه يعم منع الرفيق وغيره نصا والأول دلالة . وله أن عقد الرفقة استعانة كل منهم بكل منهم فيما يعجز عنه في سفره ، وليس المقصود بهذا السفر إلا الإحرام ، وهو أهمها إن كان مثلا يقصد التجارة مع الحج فكان عقد السفر استعانة فيه إذا عجز عنه كما هو في حفظ الأمتعة والدواب أو أقوى .

فكانت دلالة الإذن ثابتة والعلم بجوازه ثابت نظرا إلى الدليل الذي دل على جواز الاستنابة في الإحرام وهو كونه شرطا والشرط تجري فيه النيابة ، كمن أجرى الماء على أعضاء محدث فإنه يصير بذلك متوضئا ، أو غطى عورة عريان فإنه يصير بذلك محصلا للشرط ، وذلك أن الدليل الشرعي منصوب فيقام وجوده مقام العلم به في حق كل من كلف بطلب العلم ، ولذا لا يعذر بالجهل في دار الإسلام ، بخلاف من أسلم في دار الحرب فجهل وجوب الصلاة مثلا لا قضاء عليه .

فإن قيل : ينبغي أن يجردوه ويلبسوه الإزار والرداء لأن النيابة ظهر أن معناها إيجاد الشرط في المنوب عنه كالتوضئة ، لكن الواقع أن ليس معنى الإحرام عنه ذلك ، بل أن يحرموا هم بطريق النيابة فيصير هو محرما بذلك الإحرام من غير أن يجردوه ، حتى إذا أفاق وجب عليه الأفعال والكف عن المحظورات من غير أن يحرم بنفسه .

فالجواب التجريد وإلباس غير المخيط ليس وزان التوضئة التي هي الشرط ، إذ ليس ذلك الإحرام بل كف عن بعض المحظورات ، أعني لبس المخيط ، وإنما الإحرام وصف شرعي هو صيرورته محرما عليه أشياء موجبا عليه المضي في أفعال مخصوصة . وآلة ثبوت هذا المعنى الشرعي المسمى بالإحرام نية التزام نسك مع التلبية أو ما يقوم مقامها . ونيابتهم إنما هي بذلك المعنى في الشرط ، فوجب كون الذي هو إليهم أن ينووا ويلبوا عنه فيصير هو بذلك محرما ، كما لو نوى هو ولبى ، وينتقل إحرامهم إليه حتى كان للرفيق أن يحرم عن نفسه مع ذلك . وإذا باشر محظور الإحرام لزمه جزاء واحد ، بخلاف القارن لأنه في إحرامين وهذا في إحرام واحد لانتقال ذلك الإحرام إلى المنوب عنه شرعا .

واعلم أنهم اختلفوا فيما لو استمر مغمى عليه إلى وقت أداء الأفعال ، هل يجب أن يشهدوا به المشاهد فيطاف به ويسعى ويوقف أو لا بل مباشرة الرفقة لذلك عنه تجزيه ، فاختار طائفة الأول ، وعليه يمشي التقرير المذكور ، واختار آخرون الثاني وجعله في المبسوط الأصح وإنما ذلك أولى لا متعين . وعلى هذا يجب كون الدليل الذي دل على جواز الاستنابة في الإحرام الذي أقيم وجوده مقام العلم به هو كون هذه العبادة : أعني الحج عن نفسه مما تجري فيه النيابة عند العجز كما في استنابة الذي زمن بعد القدرة وأدركه الموت فأوصى به ، غير أنه إن أفاق قبل الأفعال تبين أن عجزه كان في الإحرام فقط فصحت نيابتهم على الوجه الذي قلنا فيه ثم يجري هو بنفسه على موجبه ، فإن لم يفق تحقق عجزه عن الكل فأجروا هم على موجبه ، غير أنه لا يلزم الرفيق بفعل المحظورات شيء عن هذا الإحرام ، بخلاف النائب في الحج عن الميت ، ولأنه يتوقع إفاقة هذا في كل ساعة ، وحينئذ يجب الأداء بنفسه لعدم العجز فنقلنا الإحرام إليه ، لأنا لو لم ننقل الإحرام إليه مع هذا الاحتمال لفاته الحج إذا أفاق في بعض الصور ، وهو أن يفيق [ ص: 513 ] بعد يوم عرفة لعدم العجز عن باقي الأفعال مع العجز عن تجديد الإحرام للأداء في هذه السنة .

وما جعل عقد الرفقة أو العلم بحاله دليل الإذن إلا كي لا يفوت مقصوده من هذا السفر ، بخلاف الميت انتفى فيه ذلك فانتفى موجب النقل عن المباشر للإحرام . وذكر فخر الإسلام : إذا أغمي عليه بعد الإحرام فطيف به المناسك فإنه يجزيه عند أصحابنا جميعا لأنه هو الفاعل وقد سبقت النية منه ، فهو كمن نوى الصلاة في ابتدائها ثم أدى الأفعال ساهيا لا يدري ما يفعل أجزأه لسبق النية ا هـ .

ويشكل عليه اشتراط النية لبعض أركان هذه العبادة وهو الطواف . بخلاف سائر أركان الصلاة ولم توجد منه هذه النية . والأولى في التعليل أن جواز الاستنابة فيما يعجز عنه ثابت بما قلنا . فتجوز النيابة في هذه الأفعال . ويشترط نيتهم الطواف إذا حملوه فيه كما تشترط نيته ، إلا أن هذا يقتضي عدم تعين حمله والشهود ، ولا أعلم تجويز ذلك عنهم . في المنتقى .

روى عيسى بن أبان عن محمد رحمه الله : رجل أحرم وهو صحيح ثم أصابه عته فقضى به أصحابه المناسك ووقفوا به فلبث بذلك سنين ثم أفاق أجزأه ذلك عن حجة الإسلام . قال : وكذلك الرجل إذا قدم مكة وهو صحيح أو مريض إلا أنه يعقل فأغمي عليه بعد ذلك فحمله أصحابه وهو مغمى عليه فطافوا به فلما قضى الطواف أو بعضه أفاق وقد أغمي عليه ساعة من نهار ولم يتم يوما أجزأه عن طوافه .

وفيه أيضا : لو أن رجلا مريضا لا يستطيع الطواف إلا محمولا وهو يعقل نام من غير عته فحمله أصحابه وهو نائم فطافوا به ، أو أمرهم أن يحملوه ويطوفوا به فلم يفعلوا حتى نام ثم احتملوه وهو نائم فطافوا به أو حملوه حين أمرهم بحمله وهو مستيقظ فلم يدخلوا به الطواف حتى نام فطافوا به على تلك الحالة ثم استيقظ .

روى ابن سماعة عن محمد رحمه الله أنهم إذا طافوا به من غير أن يأمرهم لا يجزيه ، ولو أمرهم ثم نام فحملوه بعد ذلك وطافوا به أجزأه ، وكذلك إن دخلوا به الطواف أو توجهوا به نحوه فنام وطافوا به أجزأه . ولو قال لبعض من عنده : استأجر لي من يطوف بي ويحملني ثم غلبته عيناه ونام ولم يمض الذي أمره بذلك من فوره بل تشاغل بغيره طويلا ثم استأجر قوما يحملونه وأتوه وهو نائم فطافوا به قال : أستحسن إذا كان على فوره ذلك أنه يجوز .

فأما إذا طال ذلك ونام فأتوه وحملوه وهو نائم لا يجزيه عن الطواف ، ولكن الإحرام لازم بالأمر . قال : والقياس في هذه الجملة أن لا يجزيه حتى يدخل الطواف وهو مستيقظ ينوي الدخول فيه ، لكنا استحسنا إذا حضر ذلك فنام وقد أمر أن يحمل فطاف به أنه يجزيه .

وحاصل هذه الفروع الفرق بين النائم والمغمى عليه في اشتراط صريح الإذن وعدمه ، ثم في النائم قياس واستحسان . استأجر رجالا فحملوا امرأة فطافوا بها ونووا الطواف أجزأهم ولهم الأجرة وأجزأ المرأة . وإن نوى الحاملون طلب غريم لهم المحمول يعقل وقد نوى الطواف أجزأ المحمول دون الحاملين ، وإن كان مغمى عليه لم يجزه لانتفاء النية منه ومنهم . أما جواز الطواف فلأن المرأة حين أحرمت نوت الطواف ضمنا ، وإنما تراعى النية وقت الإحرام لأنه وقت العقد على الأداء . وأما استحقاق الأجر فلأن الإجارة وقعت على عمل معلوم ليس بعبادة وضعا ، وإذا حملوها وطافوا ولا ينوون الطواف بل طلب غريم لا يجزيها إذا كانت مغمى عليها لأنهم ما أتوا بالطواف وإنما أتوا بطلب الغريم والمنتقل إليها إنما هو فعلهم فلا [ ص: 514 ] يجزيها إلا إذا كانت مفيقة ونوت الطواف




الخدمات العلمية