الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وما كان صلاتهم عند البيت أي: المسجد الحرام الذي صدوا المسلمين عنه، والتعبير عنه بالبيت للاختصار مع الإشارة إلى أنه بيت الله تعالى؛ فينبغي أن يعظم بالعبادة وهم لم يفعلوا إلا مكاء أي: صفيرا، وهو فعال بضم أوله كسائر أسماء الأصوات تجيء على فعال إلا ما شذ كالنداء من مكا يمكو إذا صفر، وقرئ: مكا بالقصر ك بكا وتصدية أي: تصفيقا، وهو ضرب اليد باليد بحيث يسمع له صوت، ووزنه تفعلة من الصد كما قال أبو عبيدة، فحول إحدى الدالين ياء كما في تقضى البازي لتقضضه، ومن ذلك قوله تعالى: إذا قومك منه يصدون أي: يضجون لمزيد تعجبهم، وأنكر عليه، وقيل: هو من الصدا وهو ما يسمع من رجع الصوت عند جبل ونحوه، والمراد بالصلاة إما الدعاء أو أفعال أخر كانوا يفعلونها ويسمونها صلاة، وحمل المكاء والتصدية عليها على ما يشير إليه كلام الراغب بتأويل ذلك بأنها لا فائدة فيها ولا معنى لها كصفير الطيور وتصفيق اللعب. وقد يقال: المراد أنهم وضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة التي تليق أن تقع عند البيت على حد:


                                                                                                                                                                                                                                      تحية بينهم ضرب وجيع

                                                                                                                                                                                                                                      يروى أنهم كانوا إذا أراد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يصلي يخلطون عليه بالصفير والتصفيق ويرون أنهم يصلون أيضا.

                                                                                                                                                                                                                                      وروي أنهم كانوا يطوفون عراة الرجال والنساء مشبكين بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون. وقال بعض القائلين: إن التصدية بمعنى الصد، والمراد صدهم عن القراءة أو عن الدين أو الصد بمعنى الضجة كما نقل عن ابن يعيش في قوله تعالى: إذا قومك منه يصدون والمأثور عن ابن عباس وجمع من السلف ما ذكرناه.

                                                                                                                                                                                                                                      نعم روي عن ابن جبير تفسير التصدية بصد الناس عن المسجد الحرام، وفيه بعد، وأبعد من ذلك تفسير عكرمة لها بالطواف على الشمال بل لا يكاد يسلم، والجملة معطوفة إما على (وهم يصدون) فتكون لتقرير استحقاقهم للعذاب ببيان أنهم صدوا ولم يقوموا مقام من صدوه في تعظيم البيت، أو على وما كانوا أولياءه فتكون تقريرا لعدم استحقاقهم لولايته. وقرأ الأعمش: (صلاتهم) بالنصب وهي رواية عن عاصم وأبان، وهو حينئذ خبر كان، ومكاء بالرفع اسمها، وفي ذلك الإخبار عن النكرة بالمعرفة وهو من القلب عند السكاكي، وقال ابن جني: لا قلب، ثم قال: لسنا ندفع أن جعل اسم كان نكرة وخبرها معرفة قبيح، وإنما جاءت منه أبيات شاذة، لكن من وراء ذلك ما أذكره، وهو أن نكرة الجنس تفيد مفاد معرفته، ألا تراك تقول: خرجت فإذا أسد بالباب، فتجد معناه: فإذا الأسد بالباب، ولا فرق بينهما، وذلك أنك في الموضعين لا تريد أسدا واحدا معينا [ ص: 204 ] وإنما تريد واحدا من هذا الجنس، وإذا كان كذلك جاز هنا النصب والرفع جوازا قريبا كأنه قيل: وما كان صلاتهم إلا هذا الجنس من الفعل ولا يكون مثل قولك: كان قائم أخاك، لأنه ليس في (قائم) معنى الجنسية. وأيضا فإنه يجوز مع النفي ما لا يجوز مع الإيجاب، ألا تراك تقول: ما كان إنسان خيرا منك ولا تجيز كان إنسان خيرا منك، وتمام الكلام عليه في موضعه: فذوقوا العذاب ، يعني القتل والأسر يوم بدر كما روي عن الحسن والضحاك، وقيل: عذاب الآخرة، وقيل: العذاب المعهود في قوله سبحانه: أو ائتنا بعذاب ولا تعيين، والباء في قوله تعالى: بما كنتم تكفرون للسببية، والفاء على تقدير أن لا يراد من العذاب عذاب الآخرة للتعقيب، وعلى تقدير أن يراد ذلك للسببية كالباء وأمر اجتماعهما ظاهر، والمتبادر من الكفر ما يرجع إلى الاعتقاد، وقد يراد به ما يشمل الاعتقاد والعمل كما يراد من الإيمان في العرف ذلك أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية