الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر فتح البذ وأسر بابك

وفي هذه السنة فتحت البذ ، مدينة بابك ، ودخلها المسلمون وخربوها ، واستباحوها ، ( وذلك لعشر بقين من شهر رمضان ) .

وكان سبب ذلك أن الأفشين لما عزم على الدنو من البذ ، والرحيل من كلان روذ ، جعل يتقدم قليلا قليلا خلاف ما تقدم ، وكتب إليه المعتصم يأمره أن يجعل الناس نوائب ، يقفون على ظهور الخيل نوبا في الليل ، مخافة البيات ، فضج الناس من التعب ، وقالوا : بيننا وبين العدو أربعة فراسخ ، ونحن نفعل أفعالا كأن العدو بإزائنا ، قد استحيينا من الناس ، أقدم بنا ، فإما لنا وإما علينا .

فقال : أعلم أن قولكم حق ، ولكن أمير المؤمنين أمرني بهذا ، فلم يلبث أن جاءه كتاب المعتصم يأمره أن يفعل كما كان يفعل ، فلم يزل كذلك أياما ، ثم انحدر حتى نزل روذ الروذ ، وتقدم حتى شارف الموضع الذي كانت به الوقعة في العام الماضي ، فوجد عليه كردوسا من الخرمية ، فلم يحاربهم ، ولم يزل إلى الظهر ، ثم رجع إلى معسكره فمكث يومين ، ثم عاد في أكثر من الذين كانوا معهم ، ولم يقاتلهم ، وأقام الأفشين بروذ الروذ ، وأمر الكوهبانية ، وهم أصحاب الأخبار ، أن ينظروا له في رؤوس الجبال مواضع يتحصن فيها الرجالة .

فاختاروا له ثلاثة أجبل كان عليها حصون فخربت ، فأخذ معه الفعلة ، وسار نحو هذه الجبال ، وأخذ معه الكعك والسويق ، وأمر الفعلة بنقل الحجارة ، وسد الطريق إلى [ ص: 26 ] تلك الجبال ، حتى صارت كالحصون ، وأمر بحفر [ خندق ] على كل طريق وراء تلك الحجارة ، ولم يترك مسلكا إلى الجبال منها إلا مسلكا واحدا ، ففرغ من الذي أراد من حفر الخنادق في عشرة أيام ، وهو والناس يحرسون الفعلة والرجالة ليلا ونهارا .

فلما فرغ منها أدخل الرجالة إليها ، وأنفذ إليه بابك رسولا ومعه قثاء ، وبطيخ ، وخيار ، ويعلمه أنه قد تعب وشقي من أكل الكعك ، وأننا في عيش رغد ، فقبل ذلك منه ، وقال : قد عرفت ما أراد أخي ، وأصعد الرسول ، فأراه ما عمل ، وأطاف به خنادقه كلها ، وقال : اذهب فعرفه ما رأيت .

وكان جماعة من الخرمية يأتون إلى قرب خندق الأفشين ، فيصيحون ، فلم يترك الأفشين أحدا يخرج إليهم ، فعلوا ذلك ثلاثة أيام ، ثم إن الأفشين كمن لهم كمينا ، فلما جاؤوا ثاروا عليهم ، فهربوا ولم يعودوا .

وعبأ الأفشين أصحابه ، وأمر كلا منهم بلزوم موضعه ، وكان يركب ، والناس في مواقفهم ، فكان يصلي الصبح بغلس ، ثم يضرب الطبول ( ويسير زحفا ، وكانت علامته في المسير والوقوف ضرب الطبول ) : لكثرة الناس ، ومسيرهم في الجبال والأودية على مصافهم ، فإذا سار ضربها ، وإذا وقف أمسك عن ضربها ، فيقف الناس جميعا ، ويسيرون جميعا .

وكان يسير قليلا قليلا كلما جاءه كوهباني بخبر سار ، أو وقف ، وكان إذا أراد أن يتقدم إلى المكان الذي كانت به الوقعة عام أول ، خلف بخاراخذاه على رأس العقبة في ألف فارس ، وستمائة راجل ، يحفظون الطريق لئلا يأخذه الخرمية عليهم .

وكان بابك إذا أحس بمجيئهم وجه جمعا من أصحابه ، فيكمنون في واد ( تحت تلك العقبة ) ، تحت بخاراخذاه ، واجتهد الأفشين أن يعرف مكان كمين بابك ، فلم يعلم بهم ، وكان يأمر أبا سعيد ( أن يعبر الوادي في كردوس ، ويأمر جعفرا الخياط أن يعبر في كردوس ) ، ويأمر أحمد بن الخليل بن هشام أن يعبر في كردوس آخر ، فيصير في ذلك الجانب ثلاثة كراديس في طرف أبياتهم ، وكان بابك يخرج عسكره فيقف بإزاء هذه الكراديس ، لئلا يتقدم منهم أحد إلى باب البذ ، وكان يفرق عساكره كمينا ، ولم يبق إلا في نفر يسير .

[ ص: 27 ] وكان الأفشين يجلس على تل مشرف ينظر إلى قصر بابك ، والناس كراديس ، فمن كان معه من هذا الجانب من الوادي نزل عن دابته ، ومن كان من ذلك الجانب مع أبي سعيد وجعفر وأحمد بن الخليل لم ينزل لقربه من العدو ، وكان بابك وأصحابه يشربون الخمر ، ويضربون بالسرنائي ، فإذا صلى الأفشين الظهر رجع إلى خندقه بروذ الروذ ، فكان يرجع أولا أقربهم إلى العدو ، ثم الذي يليه ، ثم الذي يليه ، فكان آخر من يرجع بخاراخذاه لأنه كان أبعدهم عن العدو ، فإذا رجعوا صاح بهم الخرمية .

فلما كان في بعض الأيام ضجرت الخرمية من المطاولة ، وانصرف الأفشين كعادته ، وعادت الكراديس التي بذلك الجانب من الوادي ، ولم يبق إلا جعفر الخياط ، ففتح الخرمية باب البذ ، وخرج منهم جماعة على أصحاب جعفر ، وارتفعت الصيحة في العسكر ، فتقدم جعفر بنفسه ، فرد أولئك الخرمية إلى باب البذ ، ووقعت الصيحة في العسكر ، فرجع الأفشين فرأى جعفرا وأصحابه يقاتلون ، وخرج من الفريقين جماعة ، وجلس الأفشين في مكانه ، وهو يتلظى على جعفر ، ويقول : أفسد علي تعبيتي .

وارتفعت الصيحة ، فكان مع أبي دلف قوم من المتطوعة ، فعبروا إلى جعفر بغير أمر الأفشين ، وتعلقوا بالبذ ، وأثروا فيه أثرا ، وكادوا يصعدونه ، فيدخلون البذ ، ووجه جعفر إلى الأفشين أن أمدني بخمس مائة راجل من الناشبة ، فإني أرجو أن أدخل البذ إن شاء الله تعالى ، فبعث إليه الأفشين : إنك أفسدت علي أمري ، فتخلص قليلا قليلا ، وخلص أصحابك وانصرف ، وارتفعت الصيحة من المتطوعة ، حتى تعلقوا بالبذ ، وظن الكمناء الذين لبابك أن الحرب قد اشتبكت ، فوثب بعضهم من تحت بخاراخذاه ووثب بعضهم من ناحية أخرى ، فتحركت الكمناء من الخرمية ، والناس على رؤوسهم ، فلم يزل منهم أحد ، فقال الأفشين : الحمد لله الذي بين مواضع هؤلاء .

ورجع جعفر وأصحابه والمتطوعة ، فجاء جعفر إلى الأفشين ، فأنكر عليه حيث لم يمده ، وجرى بينهما نفرة شديدة ، وجاء رجل من المتطوعة ، ومعه صخرة ، فقال للأفشين : أتردنا وهذا الحجر أخذته من السور ؟ فقال : إذا انصرفت عرفت من على [ ص: 28 ] طريقك ، يعني الكمين الذي عند بخاراخذاه . وقال لجعفر : لو ثار هذا الكمين الذي تحتك كيف كنت ترى هؤلاء المتطوعة ؟ !

ثم رجع هو وأصحابه على عادتهم ، فلما رأى هؤلاء الكمين الذي عند بخاراخذاه علموا ما كان وراءهم ، فإن بخاراخذاه لو تحرك نحو القتال ، لملكوا ذلك الموضع ، وهلك المسلمون عن آخرهم ، فأقام الأفشين بخندقه أياما ، فشكا المتطوعة إليه ضيق العلوفة ، والزاد ، والنفقة ، فقال : من صبر فليصبر ، ومن لم [ يصبر ] فالطريق واسع فلينصرف ، وفي جند أمير المؤمنين كفاية ، فانصرف المتطوعة يقولون : لو ترك الأفشين جعفرا وتركنا لأخذنا البذ ، لكنه يشتهي المطاولة ، فبلغه ذلك وما تتناوله المتطوعة بألسنتهم حتى قال بعضهم : إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ، قال لي : قل للأفشين ( إن أنت حاربت هذا وجددت في أمره ، وإلا أمرت الجبال أن ترجمك بالحجارة ، فتحدث الناس بذلك ، فبلغ الأفشين ) ، فأحضره ، وسأله عن المنام ، فقصه عليه ، فقال : الله يعلم نيتي وما أريد بهذا الخلق ، وإن الله لو أمر الجبال برجم أحد لرجم هذا الكافر فكفانا مؤونته . فقال رجل من المتطوعة : أيها الأمير لا تحرمنا شهادة إن كانت حضرت ، وإنما قصدنا ثواب الله ووجهه ، فدعنا وحدنا حتى نتقدم بعد أن يكون بإذنك لعل الله أن يفتح علينا .

فقال الأفشين : إني أرى نياتكم حاضرة ، وأحسب هذا الأمر يريده الله تعالى ، وهو خير إن شاء الله ، وقد نشطتم ونشط الناس ، وما كان هذا رأيي وقد حدث الساعة لما سمعت من كلامكم ، اعزموا على بركة الله أي يوم أردتم حتى نناهضه ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

فخرجوا مستبشرين ، فتأخر من أراد الانصراف ، ووعد الأفشين الناس ليوم ذكره لهم ، وأمر الناس بالتجهز وحمل المال والزاد والماء ، وجعل المحامل على البغال تحمل الجرحى ، وزحف بالناس ذلك اليوم وجعل بخاراخذاه بمكانه على العقبة ، وجلس الأفشين بالمكان الذي كان يجلس فيه ، وقال لأبي دلف : قل للمتطوعة أي ناحية أسهل عليكم فاقتصروا عليها .

فقال لجعفر : العسكر كله بين يديك والنشابة والنفاطون ، فإن أردت فخذ منهم ما تريد واعزم على بركة الله ، وتقدم من أي موضع تريد .

[ ص: 29 ] فسار إلى الموضع الذي كان به ذلك اليوم ، وقال لأبي سعيد : قف عندي أنت وأصحابك ، وقال لجعفر : قف أنت هاهنا ، لمكان عينه له ، فإن أراد جعفر رجالا أو فرسانا أمددناه .

وتقدم جعفر والمتطوعة ، فقاتلوا وتعلقوا بسور البذ ، وضرب جعفر باب البذ ووقف عنده يقاتل عليه ، ووجه الأفشين إليه وإلى المتطوعة بالأموال لتفرق فيهم ويعطى من تقدم ، وأمدهم بالفعلة معهم الفؤوس ، وبعث إليهم بالمياه لئلا يعطشوا وبالكعك والسويق ، فاشتبكت الحرب على الباب طويلا ، ففتحت الخرمية الباب ، وخرجوا على أصحاب جعفر ، فنحوهم عن الباب ، وشدوا على المتطوعة من الناحية الأخرى ، فطرحوهم عن السور ، ورموهم بالصخر ، وأثروا فيهم ، وضعفوا عن الحرب ، وأخذ جعفر من أصحابه نحو مائة رجل ، فوقفوا خلف ترسهم متحاجزين لا يقدم أحد على الآخر ، فلم يزالوا كذلك حتى صليت الظهر فتحاجزوا .

وبعث الأفشين الرجالة الذين كانوا عنده نحو المتطوعة ، وبعث إلى جعفر بعضهم ، خوفا أن يطمع العدو ، فقال جعفر : لست أوتى من قلة ، ولكني لا أرى للحرب موضعا يتقدمون فيه ، فأمره بالانصراف فانصرف .

وحمل الأفشين الجرحى ومن به وهن من الحجارة ، فحملوا في المحامل على البغال وانصرفوا عنهم ، وأيس الناس من الفتح تلك السنة ، وانصرف أكثر المطوعة .

ثم إن الأفشين تجهز بعد جمعتين ، فلما كان جوف الليل بعث الرجالة الناشبة ، وهم ألف رجل ، وأعطى كل واحد منهم شكوة وكعكا ، وأعطاهم أعلاما غير مركبة وبعث معهم أدلاء ، فساروا في جبال منكرة صعبة في غير طريق ، حتى صاروا خلف التل الذي يقف آذين عليه ، وهو جبل شاهق ، وأمرهم أن لا يعلم بهم أحد ، حتى إذا رأوا أعلام الأفشين وصلوا الغداة ورأوا الوقعة ركبوا تلك الأعلام في الرماح وضربوا الطبول وانحدروا من فوق الجبل ، ورموا بالنشاب والصخر على الخرمية ، وإن هم لم يروا الأعلام لم يتحركوا حتى يأتيهم خبره . ففعلوا ذلك فوصلوا إلى رأس الجبل عند السحر ، فلما كان في بعض الليل وجه الأفشين إلى الجند ، وأمرهم بالتجهز للحرب .

فلما كان بعض الليل وجه بشيرا التركي وقوادا من الفراغنة كانوا معه ، فأمرهم أن يسيروا حتى يصيروا تحت التل الذي عليه آذين ، وكان يعلم أن بابك يكمن تحت [ ص: 30 ] ذلك الجبل ، فساروا ليلا ، ولا يعلم بهم أكثر أهل العسكر ، ثم ركب هو والعسكر مع السحر ، فصلى الغداة ، وضرب الطبل ، وركب فأتى الموضع الذي كان يقف فيه ، فقعد على عادته ، وأمر بخاراخذاه أن يقف مع جعفر الخياط وأبي سعيد وأحمد بن الخليل بن هشام ، ونزل الموضع الذي كان يقف فيه ، فأنكر الناس ذلك ، وأمرهم أن يقربوا من التل الذي عليه آذين فيحدقوا به ، وكان قبل ينهاهم عنه .

ومضى الناس مع هؤلاء القواد الأربعة ، ( فكان جعفر مما يلي الباب ، وإلى جانبه أبو سعيد ، وإلى جانب أبي سعيد بخاراخذاه ، وكان أحمد مما يلي بخاراخذاه ، فصاروا جميعا حول التل وارتفعت الضجة ) من أسفل الوادي ، فوثب كمين بابك ببشير التركي والفراغنة ، فحاربوهم وسمع أهل العسكر صيحتهم ، فأرادوا الحركة ، فأمر الأفشين مناديا ينادي فيهم أن بشيرا قد أثار كمينا ، فلا يتحركن أحد ، فسكنوا ، ولما سمع الرجال الذين كان سيرهم حتى صاروا في أعلى الجبل ضجة العسكر ركبوا الأعلام على الرماح ، فنظر الناس إلى الأعلام تنحدر من الجبل على خيل آذين ، فوجه آذين إليهم بعض أصحابه .

( وحمل جعفر وأصحابه ) على آذين وأصحابه ، حتى صعدوا إليه ، فحملوا عليه حملة منكرة ، فانحدر إلى الوادي ، وحمل عليه جماعة من أصحاب أبي سعيد ، فإذا تحت دوابهم آبار محفورة ، فتساقطت الفرسان فيها ، فوجه الأفشين الفعلة يطمون تلك الآبار ، ففعلوا ، وحمل الناس عليهم حملة شديدة .

وكان آذين قد جعل فوق الجبل عجلا عليها صخر ، فلما حمل الناس عليه دفع تلك العجل عليهم ، فأفرج الناس منها حتى تدحرجت ، ثم حمل الناس من كل وجه ، فلما نظر بابك إلى أصحابه قد أحدق بهم خرج من طرف البذ ، مما يلي الأفشين ، فأقبل نحوه ، فقيل للأفشين : إن هذا بابك يريدك ، فتقدم إليه ، حتى سمع كلامه ، وكلام أصحابه ، والحرب مشتبكة في ناحية آذين ، فقال : أريد الأمان من أمير المؤمنين ، فقال له الأفشين : قد عرضت هذا عليك ، وهو لك مبذول متى شئت ، فقال : قد شئت الآن على أن تؤخرني حتى أحمل عيالي وأتجهز ، فقال له الأفشين : أنا أنصحك ، خروجك اليوم خير من غد ، قال : قد قبلت هذا ، قال الأفشين : فابعث بالرهائن ! فقال : نعم ، أما فلان وفلان فهم على ذلك التل ، فمر أصحابك بالتوقف .

[ ص: 31 ] فجاء رسول الأفشين ليرد الناس ، فقيل له : إن أعلام الفراغنة قد دخلت البذ ، وصعدوا بها القصور ، فركب وصاح بالناس ، فدخل ، ودخلوا ، وصعد الناس بالأعلام فوق قصور بابك ، وكان قد كمن في قصوره ، وهي أربعة وستمائة رجل ، فخرجوا على الناس ، فقاتلوهم ، ومر بابك ، حتى دخل الوادي الذي يلي هشتادسر ، واشتغل الأفشين ومن معه بالحرب على أبواب القصور ، فأحضر النفاطين فأحرقوها ، وهدم الناس القصور ، فقتلوا الخرمية عن آخرهم ، وأخذ الأفشين أولاد بابك وعياله ، وبقي هناك حتى أدركه المساء ، فأمر الناس بالانصراف ، فرجعوا إلى الخندق بروذ الروذ .

وأما بابك فإنه سار فيمن معه ، وكانوا قد عادوا إلى البذ ، بعد رجوع الأفشين ، فأخذوا ما أمكنهم من الطعام والأموال ، ولما كان الغد رجع الأفشين إلى البذ ، وأمر بهدم القصور وإحراقها ، ففعلوا ، فلم يدع منها بيتا ، وكتب إلى ملوك أرمينية وبطارقتهم ، يعلمهم أن بابك قد هرب وعدة معه ، وهو مار بكم ، وأمرهم بحفظ نواحيهم ، ولا يمر بهم أحد إلا أخذوه ، حتى يعرفوه .

وجاءت جواسيس الأفشين إليه فأعلموه بموضع بابك ، وكان في واد كثير الشجر والعشب ، طرفه بأذربيجان ، وطرفه الآخر بأرمينية ، ولم يمكن للخيل نزوله ، ولا يرى من يستخفي فيه لكثرة شجره ومياهه ، ويسمى هذا الوادي غيضة ، فوجه الأفشين إلى كل موضع فيه طريق إلى الوادي جماعة من أصحابه يحفظونه ، وكانوا خمس عشرة جماعة .

وورد كتاب المعتصم ، فيه أمان بابك ، فدعا الأفشين من كان استأمن إليه من أصحابه ، فأعلمهم ذلك ، وأمرهم بالمسير إليه بالكتاب ، وفيهم ابنه ، فلم يجسر [ على ذلك ] أحد منهم خوفا منه ، فقال : إنه يفرح بهذا الأمان ، فقالوا : نحن أعرف به منك ، فقام رجلان فقالا : اضمن لنا أنك تجري على عيالنا ، فضمن لهما ، فسارا بالكتاب ، فلما رأياه أعلماه ما قدما له ، فقتل أحدهما وأمر الآخر أن يعود بالكتاب إلى الأفشين .

وكان ابنه قد كتب إليه معهما كتابا ، فقال لذلك الرجل : قل لابن الفاعلة : لو كنت ابني للحقت بي ، ولكنك لست ابني ، ولأن تعيش يوما واحدا وأنت رئيس خير من أن تعيش أربعين سنة عبدا ذليلا ! وقعد في موضعه فلم يزل في تلك الغيضة حتى فني زاده ، وخرج من بعض تلك الطرق ، وكان من عليه من الجند ، قد تنحوا قريبا منه ، وتركوا [ ص: 32 ] عليه أربعة نفر يحرسونه .

فبينما هم ذات يوم ، نصف النهار ، إذ خرج بابك وأصحابه ، فلم ير العسكر ، ولا أولئك الذين يحرسون المكان ، فظن أن ليس هناك أحد ، فخرج هو وعبد الله أخوه ، ومعاوية ، وأمه ، وامرأة أخرى ، وساروا يريدون أرمينية ، فرآهم الحراس ، فأرسلوا إلى أصحابهم : إننا قد رأينا فرسانا لا ندري من هم ، وكان أبو الساج هو المقدم عليهم ، فركب الناس وساروا نحوهم ، فرأوا بابك وأصحابه قد نزلوا على ماء يتغدون ، فلما رأى العساكر ركب هو ومن معه ، فنجا هو ، وأخذ معاوية ، وأم بابك ، والمرأة الأخرى ، فأرسلهم أبو الساج إلى الأفشين .

وسار بابك في جبال أرمينية مستخفيا ، فاحتاج إلى طعام ، وكان بطارقة أرمينية قد تحفظوا بنواحيهم ، وأوصوا أن لا يجتاز بهم أحد إلا أخذوه حتى يعرفوه ، وأصاب بابك الجوع ، فرأى حراثا في بعض الأودية ، فقال لغلامه : انزل إلى هذا الحراث ، وخذ معك دنانير ودراهم ، فإن كان معه خبز فاشتر منه .

وكان للحراث شريك قد ذهب لحاجة ، فنزل الغلام إلى الحراث ليأخذ منه الطعام ، فرآه رفيق الحراث ، فظن أنه يأخذ ما معه غصبا ، فعدا إلى المسلحة ، وأعلمهم أن رجلا عليه سيف وسلاح قد أخذ خبز شريكه ، فركب صاحب المسلحة ، وكان في جبال ابن سنباط ، فوجه إلى سهل بن سنباط بالخبر ، فركب في جماعة فوافى الحراث والغلام عنده ، فسأل عنه فأخبره الحراث خبره ، فأخبر الغلام عن مولاه ، ودله عليه ، فلما رأى وجه بابك عرفه ( فترجل له ) ، وأخذ يده فقبلها ، وقال : أين تريد ؟ قال : بلاد الروم ، قال : لا تجد أحدا أعرف بحقك مني ، وليس بيني وبين السلطان عمل ، وكل من هاهنا من البطارقة إنما هم أهل بيتك ، قد صار لك منهم أولاد ؛ وذلك أن بابك كان إذا علم أن عند بعضهم من النساء امرأة جميلة طلبها ، فإن بعث بها إليه ، وإلا أسرى إليه ، فأخذها ، ونهب ماله وعاد ، فخدعه ابن سنباط ، حتى صار إلى حصنه . وأرسل بابك أخاه عبد الله إلى حصن اصطفانوس ، فأرسل ابن سنباط إلى [ ص: 33 ] الأفشين يعلمه بذلك ، فكتب إليه الأفشين يعده ويمنيه ، ووجه إليه أبا سعيد وبورماره ، وأمرهما بطاعته ، وأمرهما ابن سنباط بالمقام في مكان سماه ، وقال : لا تبرحا حتى يأتيكما رسولي ، فيكون العمل بما يقول لكما .

ثم إنه قال لبابك : قد ضجرت من هذا الحصن ، فلو نزلت إلى الصيد ، ففعل ، فلما نزل من الحصن أرسل ابن سنباط إلى أبي سعيد وبورماره ، فأمرهما أن يوافياه : أحدهما من جانب واد هناك ، والثاني من الجانب الآخر ، ففعلا ، فلم يحب أن يدفعه إليهما .

فبينما بابك وابن سنباط يتصيدان إذ خرج عليهما أبو سعيد وبورماره في أصحابهما ، وعلى بابك دراعة بيضاء ، فأخذهما ، وأمروا بابك بالنزول ، فقال : من أنتم ؟ فقال : أنا أبو سعيد ، وهذا فلان ، فنزل ثم قال لابن سنباط من الكلام القبيح ، وشتمه ، وقال : إنما بعتني لليهود بشيء يسير ، لو أردت المال لأعطيتك أكثر مما يعطيك هؤلاء ، فأركبه أبو سعيد ، وساروا به إلى الأفشين ، فلما قرب من العسكر صعد الأفشين ، وجلس ينظر إليه ، وصف عسكره صفين ، وأمر بإنزال بابك عن دابته ، ومشى بين الصفين ، وأدخله الأفشين بيتا ، ووكل به من يحفظه ، وسير معه سهل بن سنباط وابنه معاوية ، فأمر له الأفشين بمائة ألف درهم ، وأمر لسهل بألف ألف درهم ، ومنطقة مغرقة بالجواهر وتاج البطرقة .

وأرسل الأفشين إلى عيسى بن يونس بن اصطفانوس يطلب منه عبد الله أخا بابك فأنفذه إليه ، فحبسه مع أخيه ، وكتب إلى المعتصم بذلك ، فأمره بالقدوم بهما عليه .

وكان وصول بابك إلى الأفشين ببرزند لعشر خلون من شوال .

وكان الأفشين قد أخذ نساء كثيرة وصبيانا كثيرا ، ذكروا أن بابك أسرهم ، وأنهم أحرار من العرب والدهاقين ، فأمر بهم فجعلوا في حظيرة كبيرة ، وأمرهم أن يكتبوا إلى أوليائهم ، فكل من جاء يعرف امرأة ، أو صبيا ، أو جارية ، وأقام شاهدين أخذه ، فأخذ الناس منهم خلقا كثيرا ، وبقي كثير منهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية