الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1075 [ 850 ] أبنا الربيع، أبنا الشافعي، أبنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة مثله .

التالي السابق


الشرح

بريرة مولاة عائشة رضي الله عنها. روت عن: النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروى عنها: عروة بن الزبير، وعبد الملك بن مروان .

والحديث صحيح أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك، وأيضا عن عبيد بن إسماعيل، ومسلم عن أبي كريب، بروايتهما عن أبي أسامة، عن هشام بن عروة، واللفظ في رواية عبيد: إن أحب أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة وأعتقك فعلت فيكون ولاؤك لي، وفي الصحيح من رواية قتيبة عن الليث عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن بريرة جاءت تستعينها في كتابتها ولم تكن قضت من كتابتها شيئا. قالت لها عائشة: ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أقضي عن كتابتك ويكون ولاؤك لي فعلت، فذكرت بريرة لأهلها فأبوا، وقالوا: إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون [لنا] ولاؤك، [ ص: 110 ] فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ابتاعي وأعتقي فإنما الولاء لمن أعتق" .

وقولها: "إن أحب أهلك أن أعدها لك" يقال: إنما ذكر لفظ العد لأن أهل المدينة كانوا يتعاملون بالدراهم عددا وقت مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن أرشدهم - عليه السلام - وجعل العيار وزن أهل مكة، ثم اللفظ في نسخ "المسند" "إن أحب أهلك أن أعدها [لهم] عددتها ويكون ولاؤك لي" وهذا النظم يحتاج إلى تأويل وتكلف، والأحسن إن تطوع فعلت، وكذلك هو في بعض الروايات، ويروى "أن أعدها لك [عددتها]" وهو واضح.

واحتج بالحديث من جوز بيع المكاتب، وبه قال مالك; فإن بريرة كانت مكاتبة وقد جاءت عائشة تستعين بها في كتابتها، ثم إنها اشترتها، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خذيها" وفي الرواية الأخرى: "ابتاعي".

ومن منع بيعه -وهو الظاهر من مذهب الشافعي- قال: كان شرى بريرة برضاها، ألا تراها سفرت بين عائشة وبين أهلها تساوم نفسها لعائشة، والكتابة جائزة من جهة المكاتب فكان ذلك فسخا للكتابة منها، وإلى هذا ذهب محمد بن إسماعيل البخاري حيث أورد الحديث في باب ترجمه بـ "بيع المكاتب إذا رضي" وأبو داود حيث أورده في باب ترجمه بـ "بيع المكاتب إذا فسخ الكتابة".

وزعم زاعمون أنهم كانوا باعوا نجوم كتابتها لا رقبتها، وقد أجاز [ ص: 111 ] قوم بيع نجوم الكتابة، وبه قال مالك وتمسكوا بقول عائشة: "إن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك".

ومن لم يجوز بيعها [قال] : أرادت الثمن الذي تعطيهم عوضا عن الرقبة، ألا ترى أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "ابتاعي وأعتقي" وفي رواية عمرة بنت عبد الرحمن: إن أحب أهلك أن أصب لهم ثمنك صبة واحدة وأعتقك فعلت سمت المدفوع ثمنا.

واحتج الشافعي بالحديث على أنه يجوز بيع الرقيق بشرط العتق مصيرا إلى أنهم كانوا قد شرطوا العتق في ضمن شرط الولاء، والمبيع بشرط العتق جائز على ظاهر المذهب، ولو شرط البائع أن يكون الولاء له فالظاهر بطلان البيع، وفيه قول: أنه يصح ويلغو الشرط; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خذيها واشترطي لهم الولاء"، وقال: "الولاء لمن أعتق" فألغى الشرط، والقائلون بظاهر المذهب قالوا: إن أهل بريرة لم يشرطوا الولاء في نفس البيع، ولكنهم رغبوا في بيعها للعتق وطمعوا في أن يكون الولاء لهم جاهلين بأن الولاء للمعتق خاصة، فلما انتقل الملك إلى عائشة وأعتقتها، بين النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم أن الولاء لا يكون إلا للمعتق.

وتكلموا في قوله: "واشترطي لهم الولاء" على منهاجين:

أحدهما: أنه تفرد بهذه الكلمة هشام بن عروة، قال الشافعي: وأحسبه غلط فيها . وقد روى ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ابتاعي وأعتقي فإنما الولاء لمن أعتق".

وعن عمرة عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ابتاعيها وأعتقيها فإن [ ص: 112 ] الولاء لمن أعتق".

وروى القاسم عن عائشة: اشتريها وأعتقيها ولم يذكر أحد منهم: "واشترطي لهم الولاء" وروايتهم أولى; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يأمر بالإجابة إلى اللغو والباطل ولا يأذن فيما ينكر عليهم، وفي الصحيحين عن نافع عن ابن عمر أن أهلها قالوا لعائشة: نبيعكها على أن ولاءها لنا، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لا يمنعنك ذلك; فإن الولاء لمن أعتق" .

قال الأئمة: فلعل هشاما لما سمع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يمنعك ذلك" فأطلق اللفظ أطلقها.

والثاني: التأويل من ثلاثة أوجه:

أحدها: أن المراد لا تعتاد ولا تنال بما يقولون، فإن الولاء لا يكون إلا للمعتقين، ويشعر به ما روي عن عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[قال] "اشتريها وأعتقيها ودعيهم يشترطون ما شاءوا" .

والثاني: عن المزني تنزيل لهم على "عليهم" كما قال تعالى: أولئك لهم اللعنة أي: عليهم.

والثالث: أن قوله: "اشترطي لهم الولاء" مسبوق على معنى الوعيد الذي ظاهره الأمر وباطنه النهي، كقوله تعالى: اعملوا ما شئتم .

[ ص: 113 ] واحتج بقوله: "إنما الولاء لمن أعتق" على أن من أسلم على يديه رجل لا ولاء له عليه غير معتق، وعلى أنه لا يثبت الولاء بالموالاة والمخالفة.

وقوله: "ما كان من شرط ليس في كتاب الله" أي: ليس هو على حكم كتابه وموجب أمره، وليس المعنى أنه غير منصوص عليه في الكتاب، وما يبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - فالأخذ به واجب بحكم الكتاب، قال الله تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه .

وأما رواية [عمرة] في الإسناد الذي ساقه الشافعي آخرا فهي مسندة في اختلاف الحديث وأرسلها في مواضع، فقال: عن عمرة أن بريرة جاءت تستعين عائشة ، وكذلك رواه البخاري في "الصحيح" وهو الأثبت عند الأئمة عن مالك، ورواه سفيان عن يحيى بن سعيد موصولا.




الخدمات العلمية