الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 79 ] المسألة التاسعة

              كون الشارع قاصدا للمحافظة على القواعد الثلاث الضرورية ، والحاجية ، والتحسينية ، لا بد عليه من دليل يستند إليه ، والمستند إليه في ذلك ، إما أن يكون دليلا ظنيا أو قطعيا ، وكونه ظنيا باطل ، مع أنه أصل من أصول الشريعة ، بل هو أصل أصولها ، وأصول الشريعة قطعية حسب ما تبين في موضعه ، فأصول أصولها أولى أن تكون قطعية ، ولو جاز إثباتها بالظن ، لكانت الشريعة مظنونة أصلا وفرعا ، وهذا باطل ، فلا بد أن تكون قطعية ، فأدلتها قطعية بلا بد .

              فإذا ثبت هذا ، فكون هذا الأصل مستندا إلى دليل قطعي مما ينظر فيه ، فلا يخلو أن يكون عقليا أو نقليا .

              فالعقلي لا موقع له هنا; لأن ذلك راجع إلى تحكيم العقول في الأحكام الشرعية ، وهو غير صحيح ، فلا بد أن يكون نقليا .

              والأدلة النقلية; إما أن تكون نصوصا جاءت متواترة السند لا يحتمل متنها التأويل على حال ، أو لا ، فإن لم تكن نصوصا ، أو كانت ولم ينقلها أهل التواتر; فلا يصح استناد مثل هذا إليها; لأن ما هذه صفته لا يفيد القطع ، وإفادة القطع هو المطلوب وإن كانت نصوصا لا تحتمل التأويل ومتواترة السند ، فهذا مفيد للقطع ، إلا أنه متنازع في وجوده بين العلماء .

              والقائل بوجوده مقر بأنه لا يوجد في كل مسألة تفرض في الشريعة ، بل يوجد في بعض المواضع دون بعض ، ولم يتعين أن مسألتنا من المواضع التي جاء فيها دليل قطعي .

              والقائل بعدم وجوده في الشريعة يقول : إن التمسك بالدلائل النقلية إذا كانت متواترة موقوف على مقدمات عشر كل واحدة منها ظنية ، والموقوف على [ ص: 80 ] الظني لا بد أن يكون ظنيا; فإنها تتوقف على نقل اللغات وآراء النحو ، وعدم الاشتراك ، وعدم المجاز ، وعدم النقل الشرعي أو العادي ، وعدم الإضمار ، وعدم التخصيص للعموم ، وعدم التقييد للمطلق ، وعدم الناسخ ، وعدم التقديم والتأخير ، وعدم المعارض العقلي ، وجميع ذلك أمور ظنية .

              ومن المعترفين بوجوده من اعترف بأن الدلائل في أنفسها لا تفيد قطعا ، لكنها إذا اقترنت بها قرائن مشاهدة أو منقولة فقد تفيد اليقين ، وهذا لا يدل قطعا على أن دليل مسألتنا من هذا القبيل; لأن القرائن المفيدة لليقين غير لازمة لكل دليل ، وإلا لزم أن تكون أدلة الشرع كلها قطعية ، وليس كذلك باتفاق ، وإذا كانت لا تلزم ، ثم وجدنا أكثر الأدلة الشرعية ظنية الدلالة ، أو المتن والدلالة معا ، ولا سيما مع افتقار الأدلة إلى النظر في جميع ما تقدم ، دل ذلك على أن اجتماع القرائن المفيدة للقطع واليقين نادر ، على قول المقرين بذلك ، وغير موجود على قول الآخرين .

              فثبت أن دليل هذه المسألة على التعيين غير متعين .

              ولا يقال : إن الإجماع كاف ، وهو دليل قطعي; لأنا نقول : هذا أولا : مفتقر إلى نقل الإجماع على اعتبار تلك القواعد الثلاث شرعا ، نقلا متواترا عن جميع أهل الإجماع ، وهذا يعسر إثباته ولعلك لا تجده ، ثم نقول :

              [ ص: 81 ] ثانيا : إن فرض وجوده; فلا بد من دليل قطعي يكون مستندهم ، ويجتمعون على أنه قطعي; فقد يجتمعون على دليل ظني ، فتكون المسألة ظنية لا قطعية ، فلا تفيد اليقين; لأن الإجماع إنما يكون قطعيا على فرض اجتماعهم على مسألة قطعية لها مستند قطعي ، فإن اجتمعوا على مستند ظني ، فمن الناس من خالف في كون هذا الإجماع حجة .

              فإثبات المسألة بالإجماع لا يتخلص ، وعند ذلك يصعب الطريق إلى إثبات كون هذه القواعد معتبرة شرعا بالدليل الشرعي القطعي .

              وإنما الدليل على المسألة ثابت على وجه آخر هو روح المسألة ، وذلك أن هذه القواعد الثلاث لا يرتاب في ثبوتها شرعا أحد ممن ينتمي إلى الاجتهاد من أهل الشرع ، وأن اعتبارها مقصود للشارع .

              ودليل ذلك استقراء الشريعة ، والنظر في أدلتها الكلية والجزئية ، وما انطوت عليه من هذه الأمور العامة على حد الاستقراء المعنوي الذي لا يثبت بدليل خاص ، بل بأدلة منضاف بعضها إلى بعض مختلفة الأغراض; بحيث ينتظم من مجموعها أمر واحد تجتمع عليه تلك الأدلة على حد ما ثبت عند العامة جود حاتم ، وشجاعة علي - رضي الله عنه - ، وما أشبه ذلك; فلم يعتمد [ ص: 82 ] الناس في إثبات قصد الشارع في هذه القواعد على دليل مخصوص ، ولا على وجه مخصوص ، بل حصل لهم ذلك من الظواهر والعمومات ، والمطلقات والمقيدات ، والجزئيات الخاصة في أعيان مختلفة ووقائع مختلفة في كل باب من أبواب الفقه ، وكل نوع من أنواعه حتى ألفوا أدلة الشريعة كلها دائرة على الحفظ على تلك القواعد ، هذا مع ما ينضاف إلى ذلك من قرائن أحوال منقولة وغير منقولة .

              وعلى هذا السبيل أفاد خبر التواتر العلم ، إذ لو اعتبر فيه آحاد المخبرين ، لكان إخبار كل واحد منهم على فرض عدالته مفيدا للظن ، فلا يكون اجتماعهم يعود بزيادة على إفادة الظن ، لكن للاجتماع خاصية ليست للافتراق ، فخبر واحد مفيد للظن مثلا ، فإذا انضاف إليه آخر قوي الظن ، وهكذا خبر آخر وآخر حتى يحصل بالجميع القطع الذي لا يحتمل النقيض ، فكذلك هذا; إذ لا فرق بينهما من جهة إفادة العلم بالمعنى الذي تضمنته الأخبار .

              وهذا بين في كتاب المقدمات من هذا الكتاب .

              فإذا تقرر هذا; فمن كان من حملة الشريعة الناظرين في مقتضاها ، والمتأملين لمعانيها سهل عليه التصديق بإثبات مقاصد الشارع في إثبات هذه القواعد الثلاث .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية