الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما الأصحاب فقالوا : دلت الدلائل العقلية على وقوع التكليف على هذا الوجه ، فوجب المصير إلى تأويل هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الأولى : أن من مات على الكفر ينبئ موته على الكفر أن الله تعالى كان عالما في الأزل بأنه يموت على الكفر ولا يؤمن قط ، فكان العلم بعدم الإيمان موجودا ، والعلم بعدم الإيمان ينافي وجود الإيمان على ما قررناه في مواضع ، وهو أيضا مقدمة بينة بنفسها ، فكان تكليفه بالإيمان مع حصول العلم بعدم الإيمان تكليفا بالجمع بين النقيضين ، وهذه الحجة كما أنها جارية في العلم ، فهي أيضا جارية في الجبر .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثانية : أن صدور الفعل عن العبد يتوقف على الداعي ، وتلك الداعية مخلوقة لله تعالى ومتى كان الأمر كذلك كان تكليف ما لا يطاق لازما ، إنما قلنا : إن صدور الفعل عن العبد يتوقف على الداعي ؛ لأن قدرة العبد لما كانت صالحة للفعل والترك ، فلو ترجح أحد الجانبين على الآخر من غير مرجح لزم وقوع الممكن من غير مرجح وهو نفي الصانع ، وإنما قلنا : إن تلك الداعية من الله تعالى لأنها لو كانت من العبد لافتقر إيجادها إلى داعية أخرى ولزم التسلسل ، وإنما قلنا : إنه متى كان الأمر كذلك لزم الجبر ؛ لأن عند حصول الداعية المرجحة لأحد الطرفين صار الطرف الآخر مرجوحا ، والمرجوح ممتنع الوقوع ، وإذا كان المرجوح ممتنعا كان الراجح واجبا ضرورة لأنه لا خروج عن النقيضين ، فإذن صدور الإيمان من الكافر يكون ممتنعا وهو مكلف به ، فكان التكليف تكليف ما لا يطاق .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثالثة : أن التكليف إما أن يتوجه على العبد حال استواء الداعيين ، أو حال رجحان أحدهما ، فإن كان الأول فهو تكليف ما لا يطاق ، لأن الاستواء يناقض الرجحان ، فإذا كلف حال حصول الاستواء بالرجحان ، فقد كلف بالجمع بين النقيضين ، وإن كان الثاني فالراجح واجب ، والمرجوح ممتنع ، وإن وقع التكليف بالراجح فقد وقع بالواجب ، وإن وقع بالمرجوح فقد وقع بالممتنع .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الرابعة : أنه تعالى كلف أبا لهب بالإيمان ، والإيمان تصديق الله في كل ما أخبر عنه ، وهو مما أخبر أنه لا يؤمن ، فقد صار أبو لهب مكلفا بأن يؤمن بأنه لا يؤمن ، وذلك تكليف ما لا يطاق .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الخامسة : العبد غير عالم بتفاصيل فعله ؛ لأن من حرك أصبعه لم يعرف عدد الأحيان التي حرك أصبعه فيها ، لأن الحركة البطيئة عبارة عند المتكلمين عن حركات مختلطة بسكنات ، والعبد لم يخطر بباله أنه يتحرك في بعض الأحيان ، ويسكن في بعضها ، وأنه أين تحرك وأين سكن ، وإذا لم يكن عالما بتفاصيل فعله لم يكن موجدا لها ؛ لأنه لم يقصد إيجاد ذلك العدد المخصوص من الأفعال ، فلو فعل ذلك العدد دون الأزيد ودون الأنقص فقد ترجح الممكن لا لمرجح وهو محال ، فثبت أن العبد غير موجد ، فإذا لم يكن موجدا كان تكليف ما لا يطاق لازما على ما ذكرتم ، فهذه وجوه عقلية قطعية يقينية في هذا الباب ، فعلمنا أنه [ ص: 123 ] لا بد للآية من التأويل وفيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : وهو الأصوب : أنه قد ثبت أنه متى وقع التعارض من القاطع العقلي ، والظاهر السمعي ، فإما أن يصدقهما وهو محال ؛ لأنه جمع بين النقيضين ، وإما أن يكذبهما وهو محال ؛ لأنه إبطال النقيضين ، وإما أن يكذب القاطع العقلي ، ويرجح الظاهر السمعي ، وذلك يوجب تطرق الطعن في الدلائل العقلية ، ومتى كان كذلك بطل التوحيد والنبوة والقرآن .

                                                                                                                                                                                                                                            وترجيح الدليل السمعي يوجب القدح في الدليل العقلي والدليل السمعي معا ، فلم يبق إلا أن يقطع بصحة الدلائل العقلية ، ويحمل الظاهر السمعي على التأويل ، وهذا الكلام هو الذي تعول المعتزلة عليه أبدا في دفع الظواهر التي تمسك بها أهل التشبيه ، فبهذا الطريق علمنا أن لهذه الآية تأويلا في الجملة ، سواء عرفناه أو لم نعرفه ، وحينئذ لا يحتاج إلى الخوض فيه على سبيل التفصيل .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني في الجواب : هو أنه لا معنى للتكليف في الأمر والنهي إلا الإعلام بأنه متى فعل كذا فإنه يثاب ، ومتى لم يفعل فإنه يعاقب ، فإذا وجد ظاهر الأمر فإن كان المأمور به ممكنا كان ذلك أمرا وتكليفا في الحقيقة ، وإلا لم يكن في الحقيقة تكليفا ، بل كان إعلاما بنزول العقاب به في الدار الآخرة ، وإشعارا بأنه إنما خلق للنار .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب الثالث : وهو أن الإنسان ما دام لم يمت ، وأنا لا ندري أن الله تعالى علم منه أنه يموت على الكفر أو ليس كذلك ، فنحن شاكون في قيام المانع ، فلا جرم نأمره بالإيمان ونحثه عليه ، فإذا مات على الكفر علمنا بعد موته أن المانع كان قائما في حقه . فتبين أن شرط التكليف كان زائلا عنه حال حياته ، وهذا قول طائفة من قدماء أهل الجبر.

                                                                                                                                                                                                                                            الجواب الرابع : أنا بينا أن قوله : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) ليس قول الله تعالى ، بل هو قول المؤمنين ، فلا يكون حجة ، إلا أن هذا ضعيف ، وذلك لأن الله تعالى لما حكاه عنهم في معرض المدح لهم والثناء عليهم ، فبسبب هذا الكلام وجب أن يكونوا صادقين في هذا الكلام ، إذ لو كانوا كاذبين فيه لما جاز تعظيمهم بسببه ، فهذا أقصى ما يمكن أن يقال في هذا الموضع ونسأل الله العظيم أن يرحم عجزنا وقصور فهمنا ، وأن يعفو عن خطايانا ، فإنا لا نطلب إلا الحق ، ولا نروم إلا الصدق .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية