الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              1374 [ 700 ] وعن عمرو بن عبسة السلمي قال : كنت وأنا في الجاهلية - أظن أن الناس على ضلالة ، وأنهم ليسوا على شيء ، وهم يعبدون الأوثان ، قال : فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارا ، فقعدت على راحلتي ، فقدمت عليه ، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخفيا ، جرءاء عليه قومه ، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة ، قلت له : من أنت ؟ قال : أنا نبي الله ، فقلت : وما نبي الله ؟ قال : أرسلني الله ، فقلت : بأي شيء أرسلك ؟ قال : أرسلني بصلة الأرحام ، وكسر الأوثان ، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء ، قلت : فمن معك على هذا ؟ قال : حر وعبد . (قال : ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن معه) . فقلت : إني متبعك . قال : إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا ، ألا ترى حالي وحال الناس ؟ ولكن ارجع إلى أهلك ، فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني قال : فذهبت إلى أهلي ، وقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، وكنت في أهلي فجعلت أتخبر الأخبار ، وأسأل الناس حين قدم المدينة ، حتى قدم علي نفر من أهل يثرب من أهل المدينة فقلت : ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة ؟ فقالوا : الناس إليه سراع ، وقد أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك ، فقدمت المدينة ، فدخلت عليه فقلت : يا رسول الله ! أتعرفني ؟ قال : نعم ، أنت الذي لقيتني بمكة ؟ قال : فقلت : بلى ، فقلت : يا نبي الله ! أخبرني عما علمك الله وأجهله ، أخبرني عن الصلاة ؟ قال : صل صلاة الصبح ، ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع ، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان ، وحينئذ يسجد لها الكفار ، ثم صل ، فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح ، ثم أقصر عن الصلاة ، فإن حينئذ تسجر جهنم ، فإذا أقبل الفيء فصل ، فإن الصلاة مشهودة محضورة ، حتى تصلي العصر ، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس ، فإنها تغرب بين قرني شيطان ، وحينئذ يسجد لها الكفار . قال : فقلت : يا رسول الله ، فالوضوء ؟ حدثني عنه . قال : ما منكم رجل يقرب وضوءه فيتمضمض ويستنشق فيستنثر إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه ، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء ، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء ، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء ، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين ، إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء ، فإن هو قام فصلى ، فحمد الله وأثنى عليه ، ومجده بالذي هو له أهل ، وفرغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه .

                                                                                              رواه أحمد (4 \ 112)، ومسلم (832)، وأبو داود (1277)، والنسائي (1 \ 279 - 280)، وابن ماجه (1251) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              وقول عمرو بن عبسة : كنت وأنا في الجاهلية أظن الناس على ضلالة ; أي : أعلم وأتيقن ، فإن الظن قد يطلق على اليقين ، كما قال - تعالى - : فظنوا أنهم مواقعوها [ الكهف : 53]

                                                                                              [ ص: 460 ] وقوله : قعدت على راحلتي ; أي : ركبتها .

                                                                                              وقوله : جرءاء عليه قومه ; أي : يجترئون - من الجرأة - ، وهو مرفوع على أنه خبر مقدم ، وقومه مبتدأ ، على مذهب البصريين .

                                                                                              وقوله : من أنت ؟ سؤال عمن يعقل .

                                                                                              وقوله : وما نبي الله ؟ سؤال عن النبوة ، وهي من جنس ما لا يعقل ; لأنها معنى من المعاني .

                                                                                              وقوله : فمن معك على هذا ؟ قال : حر وعبد ; الحر : أبو بكر ، والعبد : بلال ; كما فسره . ولم يذكر له النبي - صلى الله عليه وسلم - عليا لصغره ، فإنه أسلم وهو ابن سبع سنين ، وقيل : ابن عشر ، ولا خديجة - رضي الله عنها - ; لأنه فهم عنه أنه إنما سأله عن الرجال ، فأجابه حسب ذلك . ويشكل هذا الحديث بحديث سعد بن أبي وقاص ، فإنه قال : ما أسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه ، ولقد مكثت سبعة أيام ، وإني لثلث الإسلام ، وظاهره أن أبا بكر وبلالا أسلما في اليوم الذي أسلم فيه سعد ، وأنه أقام سبعة أيام لم يسلم معهم الثلاثة أحد ، وحينئذ يلزم أن يكون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم جاءه عمرو بن عبسة : أبو بكر وسعد وبلال ، لكن سكت عنه [ ص: 461 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أعني : عن سعد - ، فلم يذكره ، إما ذهولا عنه ، وإما لأن سعدا لم يكن حاضرا إذ ذاك بمكة ، وإما لأمر آخر . والله أعلم . وقد تقدم الكلام على قرني الشيطان في الإيمان ، وعلى ما تضمنه من الأوقات فيها ، وعلى تكفير الخطايا في الطهارة .

                                                                                              وقوله : إني متبعك ، معناه : أصحبك . وأكون معك في موضعك ، ولذلك أجابه بقوله : إنك لا تستطيع يومك هذا ، ولم يرد عليه إسلامه ، وإنما رد عليه كونه معه .

                                                                                              وقوله : فإذا سمعت أني قد ظهرت ; أي : علوت وغلبت ، وهذا من إخباره - صلى الله عليه وسلم - بالغيب ، فهو داخل في باب دلالات نبوته ، فإنه أخبر عن غيب وقع على نحو ما أخبر عنه ، وهذا معنى قوله - تعالى - :ليظهره على الدين كله [ الفتح : 28 ] ; أي : ليعليه .

                                                                                              وقوله : أخبرني عن الصلاة : سؤال عن تعيين الوقت الذي يجوز التنفل فيه من الوقت الذي لا يجوز ، وإنما قلنا ذلك ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - فهم عنه ذلك ، فأجابه به ، [ ص: 462 ] ولو كان سؤاله عن غير ذلك لما كان يكون جوابه مطابقا للسؤال .

                                                                                              وقوله : أقصر ; أي : كف . وتسجر ; أي : تملأ ، ومنه : البحر المسجور ; أي : المملوء . واسم إن محذوف ، وهو ضمير الأمر والشأن . تقديره : فإنه حينئذ ; كما قال الشاعر :

                                                                                              إن من يدخل الكنيسة يوما



                                                                                              أي : إنه من ، ويجوز إثباته ; كما قال - تعالى - : إنه من يأت ربه مجرما [ طه : 74 ] .

                                                                                              وقوله : حتى يستقل الظل بالرمح ; أي : يكون ظله قليلا ، كأنه قال : حتى يقل ظل الرمح ، والباء زائدة ; كما قال - تعالى - : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم [ الحج :25 ] . وقد رواه أبو داود ، فقال : حتى يعدل الرمح ظله . قال الخطابي : هذا إذا قامت الشمس ، وتناهى قصر الظل . وقد روى الخشني لفظ كتاب مسلم : حتى يستقل ظل الرمح ; أي : يقوم ، ولا تظهر زيادته . وفيه حجة لمن منع الصلاة حينئذ ; وهم أهل الرأي ، وقد روي عن مالك ، ومشهور مذهبه ومذهب جمهور العلماء : جواز الصلاة حينئذ ، وحجتهم : عمل المسلمين في جميع الأقطار على جواز التنفل يوم الجمعة إلى صعود الإمام على المنبر عند الزوال . قال القاضي أبو الفضل : وتأول الجمهور الحديث : على أنه منسوخ بإجماع عمل الناس ، أو يكون المراد به : الفريضة ، ويكون موافقا لقوله : إذا اشتد الحر فأبردوا عن [ ص: 463 ] الصلاة ، فإن شدة الحر من فيح جهنم . قلت : وفي هذا نظر ، وهو : أنه لا يصح أن يكون نسخا على حقيقته ، وإنما هو تخصيص ، فإنه إخراج بعض ما تناوله اللفظ الأول ، لا رفع لكلية ما يتناوله . وأما قولهم : إن هذا في الفريضة ، فليس بصحيح ; لوجهين :

                                                                                              أحدهما : أن مقصود هذا الحديث : بيان الوقت الذي يجوز فيه التنفل من الوقت الذي لا يجوز فيه ; كما قررناه آنفا .

                                                                                              وثانيهما : حديث عقبة بن عامر المتقدم ، فإنه قال فيه : ثلاث ساعات نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نصلي فيهن ، وذكر هذا الوقت ، ومقصوده قطعا : بيان حكم التنفل في هذه الأوقات ، فالظاهر : حمل النهي على منع التنفل في هذه الأوقات الثلاثة ; إلا في يوم الجمعة ; جمعا بين الأحاديث والإجماع المحكي . والله - تعالى - أعلم .

                                                                                              وقوله : خرت خطاياه : رواية أكثرهم بالخاء المعجمة ; أي : سقطت ، وهو كناية عن مغفرة الذنوب . وعند أبي جعفر : جرت بالجيم في الأولى ، وقد رويناه بالجيم في جميعها ، ومعناه صحيح ; كما قال : خرجت خطاياه مع الماء .

                                                                                              [ ص: 464 ] وقوله : وفرغ قلبه لله ; أي : مما يشغله عن الصلاة ; كما قال : لا يحدث فيها نفسه .

                                                                                              وقوله : إلا انصرف من خطيئته كهيئته في يوم ولدته أمه ; أي : لا يبقى عليه شيء ، لا كبيرة ولا صغيرة ; هذا ظاهره . وقد بينا هذا المعنى في الطهارة .




                                                                                              الخدمات العلمية