الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 234 ] والتحقيق أن الصور الصناعية إنما هي أعراض وصفات قائمة بالأجسام، كالفضة والحديد والخشب والغزل واللبن ونحو ذلك، وأما الحيوان والنبات والمعدن فهي جواهر استحالت عن جواهر أخرى، وإثبات مادة مشتركة بينها باقية مع اختلاف الصور عليها قول باطل، كما أن إثبات أولئك للجوهر الفرد قول باطل.

والذين قالوا: إن بدن الإنسان وأمثاله من المحدثات إنما حدثت أعراضه لم تحدث عين قائمة - أخطأوا، والذين قالوا: إن جميع الصور جواهر أخطأوا، بل الصورة قد تكون عرضا كالشكل، والصور الصناعية من هذا الباب.

وقد يعبر بالصورة عن نفس الشيء المصور كالإنسان، فالصورة هنا جوهر قائم بنفسه، ليس قائما بجوهر آخر.

والقرآن العزيز ذكر خلق الله تعالى لما خلقه من الجواهر التي هي أعيان قائمة بأنفسها، مع ما نشهده من إحداث الصفات والأعراض أيضا، والاستدلال بذلك على الخالق سبحانه، وجعل ذلك من آياته هو مما بينه القرآن. [ ص: 235 ]

ولكن هؤلاء لم يسلكوا طريقة القرآن من وجهين: أحدهما: أنهم جعلوا الحوادث إنما هي أعراض لا أعيان، كما جعله الرازي وغيره.

لكن الرازي وغيره مع ذلك استدلوا بذلك على إثبات الصانع، فكان دليلا صحيحا في نفسه، وإن كان فيه تقصير من ذلك الوجه، ومن حيث رد ذلك إلى طريقة الإمكان.

الثاني: ما ذكره الأشعري، حيث أنه استدل بذلك على حدوث محل هذه الصفات والأعراض، بناء على أن الحادث صورة هي عرض ولها محل، فتكون الأجسام التي هي محل هذه الأعراض حادثة، وهذا لا يتم إلا ببيان امتناع حوادث لا أول لها، ثم إذا أراد أن يستدل بذلك على حدوث سائر الأجسام احتاج أن يبنيه على تماثل الأجسام.

وهذه ثلاث مقدمات ينازعهم فيها أكثر العقلاء، بل يبينون فسادها بصريح المعقول، فهي من جنس طريقة المعتزلة.

لكن مقصود الأشعري أن هذه الطريقة تغني الناس عن تلك الطريقة الطويلة، الكثيرة المقدمات، الغامضة التي يقع فيه نزاع، فإذا كانت الطريقتان مشتركتان في البناء على امتناع حوادث لا أول لها، وهذه الطريقة لا تحتاج إلى ما تحتاج إليه تلك، فكانت هذه أقرب وأيسر، فبحث الأشعري مع المعتزلة في هذه الطريقة، من جنس بحوثه [ ص: 236 ] معهم في غير ذلك من أصولهم، فإنه يبين تناقضهم، ويلزمهم فيما نفوه نظير ما يلزمونه لأهل الإثبات فيما أثبتوه فيستفاد من مناظرته لهم معرفة فساد كثير من أصولهم، ولكن سلم لهم أصولا وافقهم عليها، مثل تسليمه لهم صحة طريق الأعراض مع طولها،، ومثل إثباته للصانع بهذه الطريق التي هي من جنسها، وبنى ذلك على إثبات الجوهر الفرد، فلزم من تسليمه ذلك لهم لوازم أراد أن يجمع بينها وبين ما أثبته من الرؤية، وإثبات الكلام والصفات والعلو لله تعالى، فقال جمهور طوائف العقلاء من أهل السنة والحديث وغيرهم، ومن المعتزلة والفلاسفة وغيرهم: أن هذا مناقضة مخالفة لصريح المعقول.

ولهذا قال من قال: بقيت عليه بقية من الاعتزال، وقالوا: إنه وافقهم على بعض أصولهم التي بنوا عليها قولهم كهذا الأصل.

التالي السابق


الخدمات العلمية