الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 59 ] وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين وألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون أي : أوحينا إليه بأن ألق عصاك فقد جاء وقتها ، فألقاها كما أمر ، فإذا هي تلقف ما يأتون به من الإفك ، ذكر هنا وفي سورة طه أمره لموسى بالإلقاء ، وفي سورة الشعراء أنه فعل الإلقاء الذي أمر به ، ولم يذكر الأمر فحذف من كل سورة ما أثبت مقابله في الأخرى ، وهو من قبيل الاحتباك في السور والإيجاز المؤدي للمعاني المتعددة بأخصر عبارة ، قرأ حفص " تلقف " بالتخفيف من الثلاثي ، والباقون بالتشديد وأصله " تتلقف " ، وهو يدل على لقف شيء بعد شيء .

                          ما معنى لقف العصا للإفك ؟ الإفك - بالكسر - : اسم لما يؤفك ؛ أي : يصرف ويحول عن شيء إلى غيره ، ويستعمل في التلبيس والشر وقلب الحقائق ، وبالفتح : مصدر أفك بالفتح " كجلس وضرب " ويقال : أفك بالكسر " كتعب " قال في الأساس : أفكه عن رأيه : صرفه ، وفلان مأفوك عن الخير ، وقال الراغب : الإفك كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه ، ومنه قيل للرياح العادلة عن المهاب : مؤتفكة ، قال تعالى : وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة ( 69 : 9 ) وقال تعالى : والمؤتفكة أهوى ( 53 : 53 ) وقوله تعالى : قاتلهم الله أنى يؤفكون ( 9 : 30 ) أي : يصرفون عن الحق في الاعتقاد إلى الباطل ، وعن الصدق في المقال إلى الكذب ، وعن الجميل في الفعل إلى القبيح ، ومنه قوله تعالى : يؤفك عنه من أفك ( 51 :9 ) ، أنى يؤفكون ، وقوله : أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا ( 46 : 22 ) فاستعملوا الإفك في ذلك لما اعتقدوا أن ذلك صرف عن الحق إلى الباطل - فاستعمل ذلك في الكذب لما قلنا ا هـ . ويعلم منه ومن سائر استعمال المادة في القرآن وغيره أن [ ص: 60 ] الإفك يكون بالقول ، ومنه الكذب ، وما يؤدي المراد من الكذب كالإبهام والتدليس والتجوزات والكنايات والمعاريض التي توهم السامع أو القارئ لها ما يخالف الحق ، وقد يكون بالفعل كعمل سحرة فرعون .

                          وأما لقف الشيء وتلقفه - بالتشديد - فهو تناوله بحذق وسرعة ، كما قال الشاعر :


                          كرة حذفت بصوالجة فتلقفها رجل رجل

                          قال الراغب : لقفت الشيء ألقفه " أي من باب علم " وتلقفته تناولته بالحذق ، سواء في ذلك تناوله بالفم أو اليد قال :فإذا هي تلقف ما يأفكون ا هـ . ومن مجازه تلقف العلم أي : تلقيه بسرعة وحذق ، و ( ما ) في قوله تعالى : ما يأفكون إما موصولة وإما مصدرية ، وعلى الأول يتخرج ما نقل عن ابن عباس وقتادة والحسن والسدي من كون عصا موسى عليه السلام التقمت حبال السحرة وعصيهم واسترطتها ؛ أي : ابتلعتها فهو مما يحتمله اللفظ ، والراجح أنه مأخوذ عن اليهود لما علمت آنفا من نص سفر الخروج فيه ، وينافيه كونها مصدرية إذ المعنى عليه أنها تناولت عملهم هذا ، فأتت عليه بما أظهرت من بطلانه وحقيقة الأمر في نفسه بسرعة ، فإن كان إفكهم عبارة عن تأثير أحدثوه في العين ، فلقفها إياه عبارة عن إزالته وإبطاله ورؤية الحبال والعصي على حقيقتها - وإن كان تحريكا لها بمحركات خفية سريعة ، فكذلك - وإن كان قد حصل بجعلها مجوفة محشوة بالزئبق وتحريكه إياها بفعل الحرارة ، سواء كانت نارا أعدت لها أو الشمس حين أصابتها ، فلقفها لذلك يجوز أن يكون بعمل من الحية أخرجت به الزئبق من الحبال والعصي فانكشفت به الحيلة ، قال الشيخ محي الدين بن عربي ما معناه أو محصله على ما نتذكر أن إبطالها لسحر السحرة أنه ترتب على إلقائها أن رأى الناس تلك الحبال والعصي على أصلها ، ولو ابتلعتها لبقي الأمر ملتبسا على الناس ؛ إذ قصاراه أن كلا من السحرة وموسى قد أظهر أمرا غريبا ، ولكن أحد الغريبين كان أقوى من الآخر فأخفاه على وجه غير معلوم ولا مفهوم ، وهذا لا ينافي كونهما من جنس واحد ، ولكن زوال غشاوة السحر وتخييله حتى رأى الناس أن الحبال والعصي التي ألقاها السحرة ليست إلا حبالا وعصيا لا تسعى ولا تتحرك ، وأن عصا موسى لم تزل حية تسعى - هو الذي ماز الحق من الباطل ، وعرفت به الآية الإلهية ، والحيلة الصناعية ، وكل ما في الأمر أن عصا موسى أزالت هذا التخيل بسرعة ، وهو معنى اللقف ، ولكن لا نعلم بماذا كان لها هذا التأثير ؛ لأنها آية إلهية حقيقة لا أمر صناعي حتى نعرف صفته وحقيقته .

                          وقوله تعالى : فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون أظهر في هذا المعنى منه في ابتلاع العصا للحبال والعصي إذا فسرت ألفاظه بمعانيها الحقيقة ، فالذي بطل كان عملا عملوه ، وكيدا [ ص: 61 ] كادوه ، وليس شيئا ماديا أوجدوه ، كما علم من سورة طه وسورة يونس ؛ أي : فثبت الحق وفسد ما كانوا يعملون من الحيل والتخييل وذهب تأثيره .

                          فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين أي : فغلب فرعون وملؤه في ذلك المجمع العظيم الذي كان في عيد لهم ويوم زينة من مواسمهم ، ضربه موسى موعدا لهم بسؤالهم كما بين في سورة طه : قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى ( 20 : 59 ) لتكون الفضيحة ظاهرة مبينة لجماهير الناس ، ولم يقل فغلبهم موسى ؛ لأن ذلك لم يكن بكسبه وصنعه . وانقلبوا ؛ أي : عادوا من ذلك المجمع صاغرين أذلة بما رزئوا به من الخذلان والخيبة ، أو صاروا صاغرين ، وإنما خص هذا بفرعون وملئه ، وكان المتبادر أن يكون للسحرة أولا وبالذات ، ولفرعون بالتبع أو للجميع على سواء ؛ لأنه تعالى بين ما كان من عاقبة السحرة بقوله : وألقي السحرة ساجدين فسره الكشاف بقوله : وخروا سجدا كأنما ألقاهم ملق ؛ لشدة خرورهم ، وقيل : لم يتمالكوا مما رأوا فكأنهم ألقوا ا هـ ، والمراد أن ظهور بطلان سحرهم ، وإدراكهم فجأة لحقيقة موسى عليه السلام ، وعلمهم بأنها من عند الله تعالى لا صنع فيها لمخلوق قد ملأت عقولهم يقينا وقلوبهم إيمانا فكان هذا اليقين في الإيمان البرهاني الكامل ، والوجداني الحاكم على الأعضاء والجوارح هو الذي ألقاهم على وجوههم سجدا لله رب العالمين الذي بيده ملكوت الخلق أجمعين ، ولم يبق في أنفسهم أدنى مكان لفرعون وعظمته الدنيوية الزائلة ، ولا سيما وقد ظهر لهم صغاره أمام هذه الآية ، وفي آية سورة طه فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى ( 20 : 70 ) فالفاء تدل على التعقيب ، ومثلها في سورة الشعراء .

                          ( فإن قيل ) : ولم قال هنا " وألقي " ولم يقل " فألقي " ليدل على التعقيب أيضا ؟ ( فالجواب ) أن " ألقي " هنا عطف على قوله تعالى : فغلبوا فهو يشاركه بما تفيده فاؤه من معنى التعقيب ، وكونه مثله أثرا لبطلان سحر السحرة ، ووقوع الحق بثبوت آية موسى عليه السلام ، ولو عطف عليه بالفاء لدل على كون السجود أثرا للغلب والصغار لا لظهور الحق ، وبطلان كيد السحر ، وحينئذ يكون منافيا لما في سورتي طه والشعراء .

                          قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون الجملة إما بيان مستأنف ، وإما حال من السحرة ؛ أي : حال كونهم قائلين في سجودهم آمنا ، ومثله في سورة الشعراء .

                          ( فإن قيل ) : ولم لم يذكر في سورة طه إيمانهم برب العالمين ؟ ولم أخر فيها اسم موسى ، وقدم اسم هارون ؟ ( فالجواب ) عنهما أن سبب ذلك مراعاة فواصل السور بما لا يعارض غيره مما ورد في غيرها ، ولا سيما وقد نزل قبلها ، فالإيمان برب هارون وموسى هو الإيمان برب العالمين ؛ لأنهما قالا لفرعون : إنا رسول رب العالمين ( 26 : 16 ) وقد بينا مرارا أن القرآن [ ص: 62 ] ليس كتاب تاريخ تدون فيه القصص بحكايتها كلها كما وقعت ، ويذكر كل ما قيل فيها بنصه أو بترجمته الحرفية - وإنما هو كتاب هداية وموعظة ، فهو يذكر من القصص ما يثبت به الإيمان ، ويتزكى الوجدان ، وتحصل العبرة ، وتؤثر الموعظة ، ولا بد في ذلك من تكرار المعاني مع التفنن في الأسلوب والتنويع في نظم الكلام وفواصل الآي ، وتوزيع الفوائد وتفريقها ، بحيث يوجد في كل قصة ما لا يوجد في غيرها .

                          قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين قالوا إنا إلى ربنا منقلبون وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين بعد ما كان من إيمان السحرة كان أول ما يخطر في البال ، ويتوجه إليه السؤال ، ما فعل فرعون وما قال ؟ وهاك البيان : قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم ؟ قرأ حفص : آمنتم بصيغة الخبر ، ويحتمل فيه تقدير همزة الاستفهام ، فهو قياسي يعتمد في فهمه على صفة الأداء ، وجرس الصوت فيه ، وبذلك يوافق سائر القراء في المعنى فهو عندهم استفهام إنكاري توبيخي ، أثبت همزته حمزة والكسائي وأبو بكر ، عن عاصم ، وروح ، عن يعقوب ، وروي في إثباتها تحقيق الهمزتين بالنطق بهما ، وتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين بين ، وقرئ بذلك في أمثالها ، والمعنى أآمنتم بموسى أو برب موسى وهارون قبل أن آذن لكم وآمركم بذلك ؟ وفي سورة طه : قال آمنتم له ( 20 : 71 ) والضمير فيه لموسى قطعا ؛ لأن تعدية الإيمان باللام تضمين يفيد معنى الاتباع والخضوع المعني ، وآمنتم به متبعين له إذعانا لرسالته قبل أن آذن لكم ؟ ولذلك يتعين استعمال هذا التضمين في الإيمان بالرسل والاتباع لهم كقوله تعالى حكاية عن فرعون : أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون ( 23 : 47 ) وقد اقتبس المعري هذا الاستدلال في قوله :


                          أعباد المسيح يخاف صحبي     ونحن عبيد من خلق المسيحا

                          [ ص: 63 ] ومثله قوله تعالى في سورة الشعراء حكاية عن قوم نوح عليه السلام : أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ( 26 : 111 ) وقوله حكاية عن كفار قريش : وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ( 17 : 90 ) وليس منه قوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف : وما أنت بمؤمن لنا ( 12 : 17 ) بل هذه لام التقوية ؛ أي : وما أنت بمصدق لنا ، وقد بين فرعون علة إيمانهم بما ظنه أو أراد أن يعتقده قومه فيهم ، فقال مواصلا تهديده :

                          إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها أي : إن هذا الصنيع الذي صنعتموه أنتم وموسى وهارون بالتواطؤ والاتفاق ليس إلا مكرا مكرتموه في المدينة بما أظهرتم من المعارضة والرغبة في الغلب عليه مع إسرار اتباعه بعد ادعاء ظهور حجته زاد في سورة طه : إنه لكبيركم الذي علمكم السحر ( 20 : 71 ) فأجمعتم كيدكم لنا في هذه المدينة ؛ لأجل أن تخرجوا منها أهلها المصريين بسحركم - وهو ما كان اتهم به موسى وحده - ويكون لكم فيها مع بني إسرائيل ما هو لنا الآن من الملك والكبرياء ، كما حكاه تعالى عن فرعون وملئه في سورة يونس .

                          فسوف تعلمون ما يحل بكم من العذاب جزاء على هذا المكر والخداع ، وبين ذلك بقوله : لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين أي : أقسم لأقطعن كذا وكذا في عقابكم والتنكيل بكم ، وهو قطع الأيدي والأرجل من خلاف ، كأن يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى أو العكس ثم لأصلبن كل واحد منكم وهو على هذه الحالة المشوهة لتكونوا عبرة لمن تحدثه نفسه بالكيد لنا ، أو بالخروج عن سلطاننا والترفع عن الخضوع لعظمتنا ، وقد تقدم الكلام على هذه الألفاظ في العقاب الذي هدد به البغاة من سورة المائدة ، ومن المعقول ما قاله بعض المفسرين من كون اتهام فرعون للسحرة بالمكر والكيد له وللمصريين ، وبتواطئهم مع موسى للإدالة منهم لبني إسرائيل - إنما كان تمويها على قومه المصريين لئلا يتبعوا السحرة في الإيمان ، ويقع ما خافه وقدره ، واتهم به موسى عليه السلام ، فهو على عتوه على الخلق وعلوه في الأرض ، قد خاف عاقبة إيمان الشعب ، وافتقر على ادعائه الربوبية إلى إيهامهم بأنه لا ينتقم من السحرة إلا حبا فيهم ، ودفاعا عنهم ، واستبقاء لاستقلالهم في وطنهم ، ومحافظتهم على دينهم ، وكذلك يفعل كل ملك ، وكل رئيس مستبد في شعب يخاف أن ينتقض عليه باجتماع كلمته على زعيم آخر بدعوة دينية أو سياسية ، وما من شعب عرف نفسه وحقوقه وتعارف بعض أفراده ، وتعاونوا على صون هذه الحقوق إلا وتعذر استبداد الأفراد فيهم ، وإن كانوا ملوكا جبارين .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية