الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      تنبيه

                                                                                                                                                                                                                                      في هذه الآيات المذكورة سؤال معروف ، وهو أن يقال : إن قول أيوب المذكور في " الأنبياء " في قوله : إذ نادى ربه أني مسني الضر وفي " ص " في قوله : إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب يدل على أنه ضجر من المرض فشكا منه ، مع أن قوله تعالى عنه : إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب [ 38 \ 44 ] يدل على كمال صبره

                                                                                                                                                                                                                                      والجواب أن ما صدر من أيوب دعاء وإظهار فقر وحاجة إلى ربه ، لا شكوى ولا جزع .

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : ولم يكن قوله : مسني الضر جزعا ؛ لأن الله تعالى قال : إنا وجدناه صابرا بل كان ذلك دعاء منه . والجزع في الشكوى إلى الخلق لا إلى الله تعالى ، والدعاء لا ينافي الرضا . قال الثعلبي : سمعت أستاذنا أبا القاسم بن حبيب يقول : حضرت مجلسا غاصا بالفقهاء والأدباء في دار السلطان ، فسئلت عن هذه الآية الكريمة بعد اجتماعهم على أن قول أيوب كان شكاية وقد قال الله تعالى : إنا وجدناه صابرا فقلت : ليس هذا شكاية ، وإنما كان دعاء ، بيانه فاستجبنا له والإجابة تتعقب الدعاء لا الاشتكاء . فاستحسنوه وارتضوه . وسئل الجنيد عن هذه الآية الكريمة فقال : عرفه فاقة السؤال ليمن عليه بكرم النوال . انتهى منه .

                                                                                                                                                                                                                                      ودعاء أيوب المذكور ذكره الله في سورة " الأنبياء " من غير أن يسند مس الضر أيوب إلى الشيطان في قوله : أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين وذكره في سورة " ص " وأسند ذلك إلى الشيطان في قوله : أني مسني الشيطان بنصب وعذاب والنصب على جميع القراءات معناه : التعب والمشقة ، والعذاب : الألم . وفي نسبة ما أصابه من المشقة والألم إلى الشيطان في سورة " ص " هذه إشكال قوي معروف ؛ لأن الله ذكر في آيات من كتابه أن الشيطان ليس له سلطان على مثل أيوب من الأنبياء الكرام ، كقوله : إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ 16 \ 99 - 100 ] وقوله تعالى : وما كان له [ ص: 239 ] عليهم من سلطان الآية [ 34 \ 21 ] وقوله تعالى مقررا له : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي [ 14 \ 22 ] وقوله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وللعلماء عن هذا الإشكال أجوبة ، منها ما ذكره الزمخشري قال :

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قلت : لم نسبه إلى الشيطان ، ولا يجوز أن يسلطه على أنبيائه ليقضي من إتعابهم وتعذيبهم وطره ، ولو قدر على ذلك لم يدع صالحا إلا وقد نكبه وأهلكه ، وقد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب ؟

                                                                                                                                                                                                                                      قلت : لما كانت وسوسته إليه وطاعته له فيما وسوس سببا فيما مسه الله به من النصب والعذاب نسبه إليه ، وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه ، مع أنه فاعله ، ولا يقدر عليه إلا هو . وقيل : أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء ، ويغريه على الكراهة والجزع ، فالتجأ إلى الله تعالى في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء ، أو بالتوفيق في دفعه ورده بالصبر الجميل .

                                                                                                                                                                                                                                      وروي أنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين ، فارتد أحدهم فسأل عنه ، فقيل : ألقى إليه الشيطان أن الله لا يبتلي الأنبياء الصالحين . وذكر في سبب بلائه أن رجلا استغاثه على ظالم فلم يغثه . وقيل : كانت مواشيه في ناحية ملك كافر فداهنه ولم يغزه . وقيل . أعجب بكثرة ماله . انتهى منه .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها ما ذكره جماعة من المفسرين أن الله سلط الشيطان على ماله وأهله ابتلاء لأيوب ، فأهلك الشيطان ماله وولده ، ثم سلطه على بدنه ابتلاء له ، فنفخ في جسده نفخة اشتعل منها ، فصار في جسده ثآليل ، فحكها بأظافره حتى دميت ، ثم بالفخار حتى تساقط لحمه ، وعصم الله قلبه ولسانه ( وغالب ذلك من الإسرائيليات ) وتسليطه للابتلاء على جسده وماله وأهله ممكن ، وهو أقرب من تسليطه عليه بحمله على أن يفعل ما لا ينبغي ، كمداهنة الملك المذكور ، وعدم إغاثة الملهوف ، إلى غير ذلك من الأشياء التي يذكرها المفسرون . وقد ذكروا هنا قصة طويلة تتضمن البلاء الذي وقع فيه ، وقدر مدته ( وكل ذلك من الإسرائيليات ) وقد ذكرنا هنا قليلا .

                                                                                                                                                                                                                                      وغاية ما دل عليه القرآن أن الله ابتلى نبيه أيوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، وأنه ناداه فاستجاب له وكشف عنه كل ضر ، ووهبه أهله ومثلهم معهم ، وأن أيوب نسب [ ص: 240 ] ذلك في " ص " إلى الشيطان . ويمكن أن يكون سلطه الله على جسده وماله وأهله ابتلاء ليظهر صبره الجميل ، وتكون له العافية الحميدة في الدنيا والآخرة ، ويرجع له كل ما أصيب فيه ، والعلم عند الله تعالى ، وهذا لا ينافي أن الشيطان لا سلطان له على مثل أيوب ؛ لأن التسليط على الأهل والمال والجسد من جنس الأسباب التي تنشأ عنها الأعراض البشرية كالمرض ، وذلك يقع للأنبياء ، فإنهم يصيبهم المرض ، وموت الأهل ، وهلاك المال لأسباب متنوعة . ولا مانع من أن يكون جملة تلك الأسباب تسليط الشيطان على ذلك للابتلاء ، وقد أوضحنا جواز وقوع الأمراض ، والتأثيرات البشرية على الأنبياء في سورة " طه " وقول الله لنبيه أيوب في سورة " ص " : وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث [ 38 \ 44 ] قال المفسرون فيه : إنه حلف في مرضه ليضربن زوجه مائة سوط ، فأمره الله أن يأخذ ضغثا فيضربها به ليخرج من يمينه ، والضغث : الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان أو نحو ذلك . والمعنى : أنه يأخذ حزمة فيها مائة عود ، فيضربها بها ضربة واحدة ، فيخرج بذلك من يمينه . وقد قدمنا في سورة " الكهف " الاستدلال بآية ولا تحنث [ 38 \ 44 ] على أن الاستثناء المتأخر لا يفيد ؛ إذ لو كان يفيد لقال الله لأيوب : قل إن شاء الله ليكون ذلك استثناء في يمينك .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية