الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون أي : قال موسى عليه السلام : إن المرجو من فضل ربكم أن يهلك عدوكم الذي سخركم وآذاكم بظلمه ، ويجعلكم خلفاء في الأرض التي وعدكم إياها ، ويمنعكم فرعون من الخروج إليها ، فينظر سبحانه كيف تعملون بعد استخلافه إياكم فيها ؛ هل تشكرون النعمة أم تكفرون ؟ وهل تصلحون في الأرض أم تفسدون ؟ ليجازيكم في الدنيا والآخرة بما تعملون .

                          وقد عبر بـ " عسى " ولم يقطع بالوعد لئلا يتكلوا ويتركوا ما يجب من العمل ، أو لئلا يكذبوه لضعف أنفسهم بما طال عليهم من الذل والاستخذاء لفرعون وقومه ، واستعظامهم لملكه وقوته ، وفي التوراة ما يؤيد هذا وما قبله .

                          جاء في آخر الفصل الخامس من سفر الخروج بعد ما نقلناه آنفا ما نصه : ( 22 ) فرجع موسى إلى الرب ، وقال يا رب : لماذا ابتليت هؤلاء الشعب لماذا بعثتني ؟ ( 23 ) فإني منذ دخلت على فرعون ؛ لأتكلم باسمك إلى هؤلاء الشعب وأنت لم تنقذ شعبك " .

                          وفي أول الفصل السادس منه فقال الرب لموسى : " الآن ترى ما أصنع بفرعون ، إنه بيد قديرة سيطلقهم ، وبيد قديرة سيطردهم من أرضه " - وأعلمه بأنه أعطى إبراهيم وإسحاق عهدا بأن يعطيهم أرض كنعان ، وأنه سمع أنين إسرائيل الذين استعبدهم المصريون فذكر عهده - ثم قال : ( 6 ) لذلك قل لبني إسرائيل : أنا الرب لأخرجكم من تحت أثقال المصريين ، وأخلصكم من عبوديتهم ، وأفديكم بذراع مبسوطة ، وأحكام عظيمة ، ( 7 ) وأتخذكم لي شعبا ، وأكون لكم إلها ، وتعلمون أنني أنا الرب إلهكم المخرج لكم من تحت أثقال المصريين ( 8 ) وسأدخلكم الأرض التي رفعت يدي مقسما أن أعطيها لإبراهيم وإسحاق ويعقوب فأعطيها لكم ميراثا ، أنا الرب ( 9 ) فكلم موسى بذلك بني إسرائيل فلم يسمعوا لموسى لضيق أرواحهم وعبوديتهم الشاقة " انتهى المراد منه .

                          وهو من ترجمة اليسوعيين كالذي قبله ، ويليه عودة موسى إلى فرعون ، ومطالبته بإخراج بني إسرائيل وامتناعه ، وإظهار الرب الآيات له واحدة بعد أخرى كما يأتي مجملا في الآيات التالية .

                          ( فإن قيل ) : ظاهر ترتيب الآيات هنا يفيد أن هذه المراجعة بين فرعون وملئه من جهة ، وبين موسى وبني إسرائيل من جهة أخرى وقعت بعد قصة السحرة ، وسياق التوراة صريح في وقوعها قبلها ، وبعد تبليغ أصل الدعوة - فهل يجب أن نقول : إن ظاهر السياق هنا غير مراد ، وهو معطوف بالواو التي لا تدل على الترتيب - أعني قوله : وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه [ ص: 73 ] إلخ ؛ ليوافق التوراة ، وتتم به الحجة على رسالة نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ من هذا الوجه ، وهو أنه كان أميا لا اطلاع له على التوراة ولا غيرها من كتب أهل الكتاب ولا غيرهم ، وأنه لم يعلمه إلا بوحي الله إليه ؟ كما قال له تعالى عقب قصة نوح : ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ( 11 : 49 ) وما في معناه من قصة موسى في سورة القصص ؟

                          ( قلنا ) : إنه لا مانع من هذا الجمع ، ولا تتوقف الحجة عليه ؛ فإن القرآن مشتمل على حجج كثيرة من هذا النوع ومن غيره تدل على كونه وحيا من الله تعالى لا يقدر على مثله محمد الأمي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا غيره من القارئين الكاتبين أيضا ، وهو على كونه كما قال مصدقا لكون تلك الكتب من عند الله تعالى - أي : في الأصل ، قد قال أيضا : إن أهل التوراة أوتوا نصيبا منها ، ونسوا حظا ونصيبا آخر ، وأنهم حرفوا بعض ما عندهم منها ، وأنه هو - أي : القرآن ، مهيمن عليها ، فما أقره منها فهو الذي لا شك فيه ، وما صححه بإيراده مخالفا لما عندهم فهو الصحيح ، سواء كان بإيراده مخالفا لما فيها من بعض الوجوه ، ككون موسى هو الذي ألقى العصا فإذا هي حية ، وإذا هي تلقف ما يأفكون لا هارون كما في التوراة ، أو دلت قواعده أو نصوصه على امتناعه كما جاء في أول الفصل الثامن من سفر الخروج من أن الرب جعل موسى إلها لفرعون ، ويكون أخوه هارون نبيه ! ! فأصول القرآن وكذا التوراة التي كتبها موسى عليه السلام قد فقدت ، وأن عزرا الكاتب هو الذي كتب الأسفار المقدسة بعد السبي البابلي في القرن الخامس قبل الميلاد ، وهو الذي استبدل الحروف الكلدانية بالعبرانية ، على أن ما كتبه عزرا قد فقد أيضا ، ولكن جميع نسخ التوراة الموجودة في العالم مستمدة مما كتبه ، وفيها تحريف كثير لا يمكن أن يكون من الأصل ، ويسمونه مشكلات يتكلفون الأجوبة عنها . وقد بينا نموذجا منها من قبل ، ومنها أن الفصل الأخير من سفر التثنية ، وهو الأخير من التوراة قد ذكر فيه وفاة موسى عليه السلام ، وأنه لم يقم بعده نبي مثله ، والمرجح عندهم أن يشوع هو الذي كتبه على أن فيه ذكر يشوع .

                          ومما يوضح معجزة القرآن فيما أخبر به عن التوراة ويؤكدها خطأ المفسرين الكثيرين من المتقدمين والمتأخرين في تفسير بعضه ، وتعيين المراد منه ؛ لعدم اطلاعهم على ما عند أهل الكتاب منها ، ومن سائر كتبهم المقدسة وغيرها من التواريخ والعاديات المتسخرجة من آثار قدماء المصريين والبابليين ، وإنما كان جل ما يعرفون عن بني إسرائيل ما سمعوه ممن أسلم منهم ، وما كل من أسلم منهم بحفيظ عليم ، ولا بصادق أمين . ثم ما أخذوه عن كتب تاريخية غير موثوق بها ، فكان أكثر ما كتبوه في التفسير منها مشوها له ، وحجة لأهل الكتاب علينا - فإذا كان هذا حال علمائنا في أخبار أهل الكتاب بعد انتشار العلوم في الإسلام ، فكيف حال أهل مكة عند ظهوره ، ولم يكن فيها كتاب يقرأ ، ولا أحد يقرأ ويكتب ، قيل : إلا ستة نفر من التجار كانوا [ ص: 74 ] ممن يقال فيهم اليوم " يفكون الخط " فأنى لمن كان أبعدهم عن ذلك ، وهو محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يعرف هذه الدقائق المفصلة السالمة من الشوائب التي لا يصدقها العقل ، أو لا تتفق مع توحيد الأنبياء وفضائلهم لولا ما أنزل عليه من الوحي الإلهي ؟ !

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية