الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2926 2 - حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال: حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أخبرته أن فاطمة عليها السلام ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم سألت أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسم لها ميراثها ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه، فقال لها أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ما تركنا صدقة، فغضبت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتى توفيت، وعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر قالت: وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة، فأبى أبو بكر عليها ذلك، وقال: لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ، فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي وعباس، فأما خيبر وفدك فأمسكهما عمر، وقال: هما صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه، وأمرهما إلى من ولي الأمر، قال: فهما على ذلك إلى اليوم.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  قيل: لا مطابقة بين الحديث والترجمة؛ لأنه ليس فيه ذكر الخمس، وأجيب بأن من جملة ما سألت فاطمة ميراثها من خيبر، وقد ذكر الزهري أن بعض خيبر صلح، وبعضها عنوة، فجرى فيها الخمس، وقد جاء في بعض طرق الحديث في كتاب المغازي قالت عائشة: إن فاطمة جاءت تسأل نصيبها مما ترك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، وإلى هذا أشار البخاري، واستغنى بشهرة الأمر عن إيراده مكشوفا بلفظ الخمس في هذا الباب.

                                                                                                                                                                                  ذكر رجاله وهم ستة. الأول عبد العزيز بن عبد الله بن يحيى القرشي العامري الأويسي المديني، وهو من أفراده. الثاني إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أبو إسحاق القرشي الزهري المديني. الثالث: صالح بن كيسان، أبو محمد مؤدب ولد عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه. الرابع: محمد بن مسلم الزهري. الخامس: عروة بن الزبير بن العوام. السادس: أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها.

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه البخاري أيضا في باب غزوة خيبر عن يحيى بن بكير عن الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة: أن فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه الحديث.

                                                                                                                                                                                  ذكر معناه، قوله: " سألت أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما " قال عياض: تأول قوم طلب فاطمة ميراثها من أبيها على أنها تأولت الحديث إن كان بلغها قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: " إنا لا نورث " على الأموال التي لها بال فهو الذي لا يورث لا ما يتركون من طعام وأثاث وسلاح. قال: وهذا التأويل يرده قوله: مما أفاء الله عليه، وقوله: مما ترك من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة. وقيل: إن طلبها لذلك كان قبل أن تسمع الحديث الذي دل على خصوصية سيدنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك، وكانت متمسكة بآية الوصية وإن كانت واحدة فلها النصف وقال ابن التين: حكى ابن بطال أن طائفة من الشيعة تزعم أنه لا يورث، قالوا: ولم تطالب فاطمة بالميراث، وإنما طالبت بأن النبي صلى الله عليه وسلم نحلها من غير علم [ ص: 20 ] أبي بكر وأنكر هذا وقالوا: ما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم نحلها شيئا ولا أنها طالبت به، فإن قلت: رووا أن فاطمة طلبت فدك وذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطعها إياها، وشهد علي رضي الله تعالى عنه على ذلك، فلم يقبل أبو بكر شهادته؛ لأنه زوجها قلت: هذا لا أصل له، ولا يثبت به رواية أنها ادعت ذلك، وإنما هو أمر مفتعل لا يثبت. قوله: ما ترك بيان أو بدل لميراثها. قوله: " مما أفاء الله عليه " من الفيء، وهو ما حصل له صلى الله عليه وسلم من أموال الكفار من غير حرب ولا جهاد. قوله: " لا نورث " قال القرطبي: جميع الرواة لهذه اللفظة يقولونها بالنون: " لا نورث " يعني جماعة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كما في الرواية الأخرى: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث "، قوله: " ما تركنا " في محل الرفع على الابتداء، وصدقة بالرفع خبره، وقد صحف بعض الشيعة هذا، وقال: " لا يورث " بياء آخر الحروف، وما تركنا صدقة بالنصب على أن يجعل " ما " مفعولا لما لم يسم فاعله، وصدقة تنصب على الحال، ويكون معنى الكلام أن ما نترك صدقة لا يورث، وهذا مخالف لما وقع في سائر الروايات، وإنما فعل الشيعة هذا واقتحموه لما يلزمهم على رواية الجمهور من فساد مذهبهم؛ لأنهم يقولون: إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يورث كما يورث غيره من المسلمين متمسكين بعموم الآية الكريمة، وقال الكرماني: لا نورث بفتح الراء، والمعنى على الكسر أيضا صحيح.

                                                                                                                                                                                  ثم الحكمة في سبب عدم ميراث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنه لا يظن بهم أنهم جمعوا المال لورثتهم. وقيل: لئلا يخشى على وارثهم أن يتمنى لهم الموت، فيقع في محذور عظيم. وقيل: لأنهم كالآباء لأمتهم، فمالهم لكل أولادهم، وهو معنى الصدقة. قوله: " فهجرت أبا بكر " قال المهلب: إنما كان هجرها انقباضا عن لقائه وترك مواصلته، وليس هذا من الهجران المحرم، وأما المحرم من ذلك أن يلتقيا، فلا يسلم أحدهما على صاحبه، ولم يرو أحد أنهما التقيا وامتنعا من التسليم، ولو فعلا ذلك لم يكونا متهاجرين إلا أن تكون النفوس مظهرة للعداوة والهجران، وإنما لازمت بيتها، فعبر الراوي عن ذلك بالهجران.

                                                                                                                                                                                  وقد ذكر في كتاب الخمس تأليف أبي حفص بن شاهين عن الشعبي أن أبا بكر قال لفاطمة: يا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خير عيش حياة أعيشها وأنت علي ساخطة، فإن كان عندك من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في ذلك عهد، فأنت الصادقة المصدقة المأمونة على ما قلت، قال: فما قام أبو بكر حتى رضيت ورضي . وروى البيهقي عن الشعبي قال: لما مرضت فاطمة رضي الله تعالى عنها أتاها أبو بكر رضي الله تعالى عنه فاستأذن عليها، فقال علي رضي الله تعالى عنه: يا فاطمة هذا أبو بكر يستأذن عليك، فقالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم، فأذنت له، فدخل عليها يترضاها، فقال: والله ما تركت الدار والمال والأهل والعشيرة إلا ابتغاء مرضاة الله ومرضاة رسوله ومرضاتكم أهل البيت ثم ترضاها حتى رضيت ، وهذا قوي جيد، والظاهر أن الشعبي سمعه من علي رضي الله تعالى عنه، أو ممن سمعه من علي. فإن قلت: روى أحمد وأبو داود عن أبي الطفيل قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت فاطمة إلى أبي بكر لأنت ورثت رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أهله؟ فقال: لا بل أهله. قالت: فأين سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو بكر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله تعالى إذا أطعم نبيا طعمة ثم قبضه جعله للذي يقوم من بعده، فرأيت أن أرده على المسلمين. قالت: فأنت وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم . قلت: في لفظه غرابة ونكارة، وفي إسناده من يتشيع، وأحسن ما فيه قولها: أنت وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو المظنون بها، واللائق بأمرها وسيادتها وعلمها ودينها. قوله: " وفدك " بالفاء والدال المهملتين المفتوحتين منصرفا وغير منصرف بينها وبين مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم مرحلتان. وقيل: ثلاث. قوله: " وصدقته بالمدينة " أي أملاكه التي بالمدينة التي صارت بعده صلى الله عليه وسلم صدقة، ويقال: صدقته بالمدينة أموال بني النضير، وكانت قريبة من المدينة، وقال ابن الجوزي: وهي مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، وقال عياض: الصدقات التي صارت إليه: أحدها من وصية مخيريق يوم أحد، وكانت سبع حوائط في بني النضير. قلت: مخيريق كان يهوديا، فأعطى تلك الحوائط لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند إسلامه. الثاني: ما أعطاه الأنصار من أرضهم، وهو مما لا يبلغه الماء، وكان هذا ملكا له صلى الله عليه وسلم، ومنها حقه من الفيء من أموال بني النضير كانت له خاصة حين أجلاهم، وكذا نصف أرض فدك صالح أهلها بعد [ ص: 21 ] فتح خيبر على نصف أرضها، فكانت خالصة له، وكذا ثلث أرض وادي القرى أخذه في الصلح حين صالح اليهود، وكذا حصنان من حصون خيبر الوطيح والسلالم أخذهما صلحا. ومنها سهمه من خمس خيبر، وما افتتح فيها عنوة، فكانت هذه كلها ملكا لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة لا حق لأحد فيها، فكان يأخذ منها نفقته ونفقة أهله، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين، وقال صلى الله عليه وسلم: " ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤونة عاملي فهو صدقة "، وكان ابن عيينة يقول: أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في معنى المعتدات لأنهن لا يجوز لهن النكاح أبدا، فجرت عليهن النفقة، وتركت لهن حجرهن يسكنها، وأراد بمؤونة العامل من يلي بعده. قوله: " لست تاركا شيئا عمله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عملته " يعني أنه كان مع ما كان يعمل يخبر أنه لا يورث عنه، قاله الداودي. قوله: " أن أزيغ " من الزيغ بالزاي والغين المعجمة، وهو الميل يعني أن أميل عن الحق. قوله: " فأما صدقته " إلى آخره من كلام عائشة أيضا. قوله: " فدفعها " أي دفع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه الصدقة المذكورة إلى علي بن أبي طالب وعباس عمه صلى الله عليه وسلم ليتصرفا فيها وينتفعا منها بقدر حقهما، كما تصرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا على جهة تمليكه لهما. وقال القرطبي: لما ولي علي رضي الله تعالى عنه لم يغير هذه الصدقة عما كانت في أيام الشيخين، ثم كانت بعده بيد الحسن، ثم بيد الحسين، ثم بيد علي بن الحسين، ثم بيد الحسن بن الحسن، ثم بيد زيد بن الحسن، ثم بيد عبد الله بن حسين، ثم وليها بنو العباس على ما ذكره البرقاني في صحيحه، ولم يرو عن أحد من هؤلاء أنه تملكها ولا ورثها ولا ورثت عنه، فلو كان ما يقوله الشيعة حقا لأخذها علي رضي الله تعالى عنه، أو أحد من أهل بيته لما ولوها. قوله: " التي تعروه " أي تنزل وتنتابه وتغشاه. قوله: " ونوائبه " النوائب جمع نائبة، وهي الحادثة التي تصيب الرجل.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية