الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                فصل : في موجبات مختلف فيها ، وهي نحو عشرة :

                                                                                                                الأول : مس الدبر ، ويسمى الشرج بفتح الشين ، وفتح الراء تشبيها له بشرج السفرة التي يؤكل عليها ، وهو مجتمعها ، وكذلك تسمى المجرة شرج السماء على أنها بابها ، ومجتمعها ، ومسه لا يوجب الوضوء خلافا ش ، وحمديس من أصحابنا . الثاني : الأنثيان : لا يوجب مسهما وضوءا خلافا لعروة بن الزبير لاندراجهما في معنى الفرج عنده . الثالث : الأرفاغ : واحدها رفغ بضم الراء ، وسكون الفاء ، والغين المعجمة ، وهو طي أصلي العجز مما يلي الجوف ، ويقال : بفتح الراء ، وقيل : هو العصب الذي بين الشرج ، والذكر ، قال القاضي في التنبيهات : ومسها ليس بشيء ، فلا يوجب وضوءا خلافا لعمر رضي الله عنه لقوله عليه السلام : ( من مس ذكره فليتوضأ ) خصه دون سائر الجسد ، فدل ذلك على عدم اعتبار غيره من الجسد ، فإن عارضوا المفهوم بالقياس عليه ، فرقنا بأنه سبب المذي بخلاف غيره . [ ص: 235 ] الرابع : مس ذكر الصبي ، وفرج الصبية لا يوجب وضوءا خلافا ش لأنهما ليسا مظنة اللذة . الخامس : فرج البهيمة لا يوجب وضوءا خلافا لليث لأنه ليس مظنة اللذة . السادس : الدم يخرج من الدبر ، أو الحصا ، أو الدود لا يوجب وضوءا خلافا ش ، و ح ; لأن الله تعالى يقول : ( أو جاء أحد منكم من الغائط ) وخطاب الشارع محمول على الغالب المعتاد ، وهذه ليست معتادة . قال صاحب الطراز : قال ابن نافع : ذلك إذا لم يخالطه أذى قال التونسي : ولو خالطه الأذى لكان فيه نظر ؛ لأنه غير معتاد . وحصى الإحليل إن خرج عقيبه بول توضأ ، وإلا فلا ، وقال ابن عبد الحكم : من خرج من دبره دم صاف ، أو دود ، فعليه الوضوء . السابع : أكل ما مسته النار ، أو شربه لا يوجب وضوءا خلافا لأحمد في لحوم الإبل ، ولعائشة ، وابن عمر ، وجماعة معهما رضي الله عنهم أجمعين ؛ لما في الموطأ أنه عليه السلام أكل كتف شاة ، ثم صلى ، ولم يتوضأ ، وأما الأحاديث الواردة في الوضوء ، فمحمولة على الوضوء اللغوي جمعا بين الأحاديث . الثامن : القهقهة لا توجب الوضوء خلافا ح لأنها لا توجبه خارج الصلاة ، فلا توجبه داخلها قياسا على العطاس ، والسعال ، أو نقول لو أوجبته داخل الصلاة لأوجبته خارج الصلاة قياسا على الريح ، وأما ما يروى عنه عليه السلام أنه كان يصلي بأصحابه ، فدخل رجل في بصره ضر ، فتردى في حفيرة كانت في المسجد ، فضحك طوائف منهم ، فلما قضى عليه السلام أمر كل من كان منهم ضحك أن يعيد الوضوء ، والصلاة - فقال عبد الحق : لا يصح من أحاديث هذا الباب شيء .

                                                                                                                [ ص: 236 ] ولو سلمنا صحته ، فهي قضية عين يحتمل أن بعضهم خرج منه ريح ، فأراد عليه السلام ستره بذلك . التاسع : القيء ، والقلس ، والحجامة ، والفصادة ، والخارج من الجسد من غير السبيلين لا توجب وضوءا خلافا ح ; لأن ما يروى عنه عليه السلام : ( الوضوء من كل دم سائل ) ومن قوله ( إذا رعف أحدكم في صلاته ، فلينصرف ، وليغسل عنه الدم ، ثم ليعد وضوءه ، وليستقبل صلاته ) ومن قوله عليه السلام ( إذا قاء أحدكم في صلاته ) أو قلس ، فلينصرف ، وليتوضأ ، وليبن على ما مضى من صلاته ، ونحو ذلك من الأحاديث لا يثبت منها شيء .

                                                                                                                والقياس على الإحداث بجامع النجاسة ممنوع ، فإنه تعبد لإيجاب الغسل من هذه الأسباب لغير المتنجس ، والقياس في التعبد متعذر لعدم العلة الجامعة . العاشر : ذبح البهائم ، ومس الصلب ، والأوتان ، والكلمة القبيحة ، والنظر للشهوة ، وقلع الضرس ، وإنشاد الشعر ، والتقطير في المخرجين ، أو إدخال شيء فيهما ، أو أذى مسلم ، أو حمل ميت ، أو وطء نجاسة رطبة - لا توجب وضوءا خلافا لقوم ؛ عملا بالأصل حكاه ابن حزم في مراتب الإجماع . تنقيح : أمر الله تعالى بالوضوء مما يحصل في الغائط بقوله : ( أو جاء أحد منكم من الغائط ) قال أبو حنيفة - رحمه الله - : السبب في ذلك هو الخارج النجس الموجب لاستخباث جملة الجسد كما أن الإنسان لو كان به برص ، أو جذام ببعض أعضائه كرهت جملته عرفا ، فكذلك يستخبث شرعا فيلحق به كل خارج نجس كالحجامة ، ونحوها .

                                                                                                                وقال الشافعي رحمة الله عليه : المعتبر المخرج لأنه هو المفهوم المطرد عند قوله : ( أو جاء أحد منكم من الغائط ) أي ما خرج من هذين المخرجين أوجب الوضوء كان طاهرا ، أو نجسا معتادا ، أو نادرا .

                                                                                                                [ ص: 237 ] وقال مالك رحمة الله عليه : المعتبر الخارج ، والمخرج المعتادان اللذان يفهمان من الآية ، وهما تعبدان لا يجوز التصرف فيهما بل يقتصر على مورد النص ، وهذا هو الصواب ، والله أعلم .

                                                                                                                وليس هذا من باب أخذ محل الحكم قيدا في العلة الذي هو منكر بل هذا من باب الاقتصار على محل الحكم لتعذر التصرف فيه ، والنقل منه إلى غيره . تفريع : في الجواهر : كل سبب من الأسباب المعتبرة يمنع من الصلاة ، والطواف ، وسجود التلاوة ، وسجود السهو ، ومس المصحف ، أو جلده ، أو حواشيه ، أو بقضيب ; لأن ذلك بمنزلة اللمس عرفا للاتصال ، وكذلك حمله في خريطة ، أو بعلاقة ، أو صندوق مقصود له .

                                                                                                                ولا بأس بحمله في وعاء مقصود لغيره ، أو مس كتب التفسير ، أو الفقه المتضمنة له ؛ لأنها المقصود دونه ، وكذلك الدرهم عليه ذكر الله تعالى ، وقد منعه بعضهم تعظيما لذكر الله تعالى . وأما معلم الصبيان ، فلا يكلف الطهارة لمس الألواح ؛ قاله ابن القاسم لأجل الضرورة ، ولم يره ابن حبيب ، واستحب أيضا للصبيان مس الأجزاء ، أو اللوح على وضوء ، وكره لهم مس جملة المصحف على غير وضوء . ولمالك في العتبية : يعلق من القرآن على الحائض ، والجنب ، والصبي في العنق إذا احترز عليه ، أو جعل في شيء يكنه ، ولا يعلق بغير ما يكنه .

                                                                                                                وكذلك يكتب للحمى . قال صاحب الطراز : لأنه خرج عن هيئة المصحف ، وصار ككتب التفسير يحملها المحدث .

                                                                                                                والأصل في هذه الجملة الكتاب والسنة ؛ أما الكتاب فقوله تعالى : [ ص: 238 ] ( إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون ) وجه التمسك به أنه تعالى نهى عن ملامسة القرآن ، ومسه لغير الطاهرين إجلالا ، والمحدث ليس بطاهر ، فوجب أن يمنع من مسه ، وتقريره أنها صيغة حصر تقتضي حصر الجواز في المتطهرين ، وعموم سلبه في غيرهم ، والأصل عدم التخصيص فيحصل المطلوب .

                                                                                                                فإن قيل : لا نسلم أن هذه الصيغة نهي ، وإلا لكانت مجزومة الأجزاء ، ومؤكدة بنون التأكيد .

                                                                                                                سلمنا لكن لا نسلم أن المراد بالمطهرين أهل الأرض بل أهل السماء كما قال تعالى في عبس : ( بأيدي سفرة كرام بررة ) سورة عبس 15 - 16 .

                                                                                                                سلمنا أن المراد أهل الأرض لكن المطهرون عام في المطهر مطلق في التطهير ، فلم لا تكفي الطهارة الكبرى ، ولا تندرج الصغرى لخفتها .

                                                                                                                والجواب عن الأول من وجهين :

                                                                                                                الأول : أن الصيغة لو كانت خبرا للزم الخلف فيه لأنا نجد كثيرا من غير الطاهرين يمسه ، والخلف في خبر الله تعالى محال فيتعين أن تكون نهيا ، وقد حكى النحاة في الفعل المشدد الآخر أن من العرب من يحكيه حالة النهي على الرفع .

                                                                                                                الثاني : سلمنا أنه خبر لفظا ، ونهي معنى كما قال تعالى : ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ) ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) والمراد الأمر كذلك ها هنا يكون المراد النهي .

                                                                                                                وعن الثاني من وجهين :

                                                                                                                أحدهما : لو كان المراد أهل السماء لكان يقضي أن في السماء من ليس بمتطهر ، وليس كذلك بخلاف ما إذا حملناه على أهل الأرض .

                                                                                                                [ ص: 239 ] وثانيهما : أن الألف واللام للعموم فيشمل أهل الأرض ، والسماء ، والأصل عدم التخصيص فيحصل المطلوب .

                                                                                                                وعن الثالث : أنه يجب أن يحمل المتطهر على أعلى مراتبه تعظيما لكتاب الله تعالى .

                                                                                                                وأما السنة : فما في الموطأ أنه عليه السلام كتب كتابا إلى عمرو بن حزم باليمن : ( ألا يمس القرآن إلا طاهر ) ، وهذا الحديث يؤكد التمسك بالآية لأنه على صيغتها .

                                                                                                                تحقيق : قد توهم بعض الفقهاء أن هذه النصوص لا تتناول الصبيان كسائر التكاليف ، فكما لا يكون تركهم لتلك التكاليف رخصة ، فكذلك ها هنا ، وليس كما ظن ؛ فإن النهي عن ملامسة القرآن لغير المتطهر كالنهي عن ملامسته لغير الطاهر من جهة أن كل واحد منهما لا يشعر بأن المنهي عن ملامسته موصوف بالتكليف ، أو غير موصوف فيكون الجواز في الصبيان رخصة .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية