الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ولما وقع عليهم الرجز قالوا ياموسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين بعد بيان تلك الآيات ذكر ما كان من تأثيرها وتأويلها معطوفا عليها فقال عز وجل : ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل قال في الأساس : ارتجز الرعد إذا تداوك صوته كارتجاز الرجز . . والبحر يرتجز بآذيه ، أي موجه . . فمادة الرجز تدل في أصل اللغة على الاضطراب [ ص: 82 ] كما قال الراغب ، وهو يكون في النفس كما يكون في الأجسام ، ومنه قوله تعالى في وصف الماء الذي أنزله على المسلمين في بدر : ويذهب عنكم رجز الشيطان ( 8 : 11 ) أي : وسوسته لهم بأن يأخذهم العطش فلا يستطيعون الصبر على القتال ، وقيل غير ذلك ، وقد يكون في الصوت ، ومنه الرجز في الشعر سمي بما كان لهم من اضطراب الصوت في إنشاده ، وقد سمي عذاب قوم لوط رجزا بقوله تعالى في سورة العنكبوت : إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ( 29 : 34 ) وفي سورتي سبأ والجاثية إنذار للكافرين بعذاب من رجز أليم ، وفسر الرجز هنا بالعذاب ، وروي عن قتادة ، وفيه حديث مرفوع عن عائشة عند ابن مردويه ، وعن ابن عباس وسعيد بن جبير أن المراد به الطاعون ، وكأنهما أخذاه من حديث أسامة بن زيد مرفوعا " الطاعون رجز أرسل على بني إسرائيل - أو على من كان قبلكم - فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه " رواه مسلم عنه بهذا اللفظ وألفاظ أخرى بمعناه ، منها : " الطاعون آية الرجز ابتلى الله به عز وجل أناسا من عباده " إلخ ، وفي رواية له : " هو عذاب أو رجز أرسله الله على طائفة من بني إسرائيل أو ناس كانوا قبلكم " إلخ ، وأوله في بعضها : " إن هذا الطاعون " إلخ ، ووجهه في اللغة أن الطاعون من الأوبئة التي تضطرب لها القلوب لشدة فتكها ، وذكر المفسرون تفسير قوله تعالى من سورة البقرة : وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية إلى قوله : فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ( 2 : 58 ، 59 ) وهو يصدق بطائفة من بني إسرائيل ، وقد نزل الطاعون بهم كغيرهم مرارا ، ولا يوجد حديث مرفوع يدل على أن الطاعون هو المراد بالرجز في الآية التي نفسرها ، وضربة القروح المذكورة في التوراة يجوز أن تكون هي الطاعون ، وموت الأبكار يحتمل أن يكون بالطاعون أيضا .

                          والمتبادر من عبارة الآية أن المراد من الرجز جنسه ، وهو كل عذاب تضطرب له القلوب أو يضطرب له الناس في شئونهم ومعايشهم ، وهو يشمل كل نقمة وجائحة أنزلها الله تعالى على قوم فرعون كالخمس المبينة في هذا السياق ، وفي التوراة أن فرعون كان يقول لموسى عند نزول كل منها : ادع لنا ربك ، واشفع لنا عنده أن يرفع عنا هذه ، ويعده بأن يرسل معه بني إسرائيل ؛ ليعبدوا ربهم ، ويذبحوا له ثم ينكث ، فإذا أريد بالرجز أفراده وافق التوراة في أن فرعون وملأه كانوا يطلبون من موسى عند كل فرد منها أن يدعو ربه بكشفها عنهم ، ولفظ " لما " لا يمنع من ذلك ، كما صرح به المفسرون الذين قالوا بهذا ، وإن أريد به جملته ، ومجموع أفراده أو فرد آخر غير ما تقدم ، فالمتبادر أن يكون طلب كشفه قد وقع مرة [ ص: 83 ] واحدة ، والأول أظهر ويرجحه التعبير عن نكثهم بصيغة المضارع ( ينكثون ) فإنه يدل على الاستمرار .

                          ومعنى النظم الكريم : ولما وقع على فرعون وقومه ذلك العذاب المذكور في الآية السابقة فاضطربوا اضطراب الأرشية في البئر البعيدة القعر ، وحاصوا حيصة الحمر فوقعوا في حيص بيص - وهو ما يدل عليه تسمية ذلك العذاب بالرجز - قالوا عند نزول كل نوع منه بهم : يا موسى ادع لنا ربك ، واسأله بما عهد عندك من أمر إرسالك إلينا ؛ لإنقاذ قومك ؛ ليعبدوه وحده ، فالنبوة والرسالة عهد من الرب تعالى لمن اختصه بذلك ، يدل عليه قوله تعالى لإبراهيم ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ( 2 : 124 ) أو ادعه بالذي عهد به إليك أن تدعوه به فيعطيك الآيات ويستجيب لك الدعاء - أن يكشف عنا هذا الرجز ، ونحن نقسم لك لئن كشفته عنا لنؤمنن لك ، ولنرسلن معك بني إسرائيل . قال تعالى :

                          فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون أي : فلما كشفنا عنهم العذاب مرة بعد مرة إلى أجل هم بالغوه ، ومنتهون إليه في كل مرة منها - وهو عود الحال إلى ما كانت عليه - أو في مجموعها ، وهو الغرق الذي هلكوا فيه ، إذا هم ينكثون عهدهم ، ويحنثون في قسمهم في كل مرة ؛ أي : فاجئوا بالنكث ، وبادروا إلى الحنث ، بلا روية ولا ريث ، وأصل النكث في اللغة نقض ما غزل أو ما فتل من الحبال ؛ ليعود أنكاثا وطاقات من الخيوط كما كان ، والأنكاث ما نقض من الغزل ليغزل ثانية : ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ( 16 : 92 ) .

                          فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين أي : فانتقمنا منهم عند بلوغ الأجل المضروب لهم بأن أغرقناهم في اليم - وهو البحر في اللغة المصرية الموافقة للعربية في الألوف من مفرداتها " وهو يطلق على النيل وغيره - والفاء الداخلة على انتقمنا تفسيرية كقوله تعالى : ونادى نوح ربه فقال ( 11 : 45 ) وعلل هذا الانتقام كما علل أمثاله بأنهم كذبوا بآيات الله ، وتكرر هذا اللفظ في قصص الأنبياء من هذه السورة أكثر من غيرها ، وإن لم يؤت بعضهم غير آية واحدة فإن تكذيب الواحدة كتكذيب الكثير ، ويقتضيه باتحاد العلة ، كما أن تكذيب أحد الرسل كتكذيب الجميع إذا كان بعد ظهور آيته ، وقيام الحجة على دعوته . وكذلك تكرر في القرآن كون الغفلة عن الحق ودلائله من صفات الكفار ، وأما جمع الآيات هنا فلأنها متعددة ، وأما عطف الانتقام بالفاء فليس [ ص: 84 ] تعليلا آخر ، وإنما هو تعقيب على كونه وقع بعد التكذيب بتلك الآيات كلها ، والمعنى : أنهم كانوا يظهرون الإيمان عند كل آية من آيات العذاب ثم يكذبون ، حتى إذا انقضى الأجل المضروب لهم انتقمنا منهم ؛ بسبب أنهم كذبوا بها كلها ، وكانوا غافلين عما تقتضيه وتستلزمه من عذاب الدنيا والآخرة ، إذ كانت في نظر أكثرهم من قبيل السحر والصناعة ، وكانوا قد بلغوا فيهما الغاية ؛ ولذلك كانوا يكابرون أنفسهم في كل آية ، ويحاولون أن يأتي سحرتهم وعلماؤهم بمثلها ، ويحملون عجزهم على تفوق موسى عليهم فيها ، ويعدون إسناده كل شيء إلى ربه من قبيل إسنادهم الأمور إلى آلهتهم الباطلة بحسب التقاليد التي لم يكن حكماؤهم يؤمنون بها ، وإنما يحافظون عليها لأجل خضوع عامة الشعب لها ، وأما من ظهرت لهم دلالة آيات موسى على الحق فمنهم من آمن جهرا ككبار السحرة ، ومنهم من آمن فكتم إيمانه كالذي عارض فرعون وملأه في قتل موسى بالحجة والبرهان - كما في سورة غافر ، وذكرناه في هذا السياق - ومنهم من جحد بها لمحض العلو والكبرياء ، كفرعون وأكابر الوزراء والرؤساء .

                          ومن العبرة في مجاراة الحكومة الفرعونية للعوام على خرافاتهم أن حكومات هذا العصر توافق العامة‌ على كل ما يعدونه من الدين وإن لم يكن منه . كما تفعل الحكومة المصرية في بعض الاحتفالات الموسمية المبتدعة في الإسلام كالموالد بالتبع لجمهور الشعب من كبار علمائه إلى أجهل عوامه ، وهي مشتملة على كثير من المعاصي المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة التي يعد مستحلها مرتدا عن الإسلام باتفاق المذاهب ، والجمهور غافلون عن ضرر هذه البدعة التي جعلت من قبيل شعائر الإسلام بالاحتفال بها ، وشد الرحال إليها ، وإنفاق الأموال العظيمة في سبيلها ، وتعطيل كبرى شعائر الإسلام ؛ وهي الصلاة ، وإبطال دروس العلوم الدينية من المساجد التي فيها لأجلها ، كالمسجد الأحمدي في طنطا ، والمسجد الإبراهيمي في دسوق ، وأن أكبر ضررها تشويه الإسلام في نظر العقلاء من أولي العلوم الاستقلالية حتى كثر فيهم المرتدون عنه ، وصد غير المسلمين عن الإسلام ؛ لأن القاعدة التي يجري عليها عرف الأمم أن دين كل قوم ما هم عليه من التعبدات والشعائر ، وقد تكرر منا إقناع بعض مستقلي الفكر من غير المسلمين بحقية دين الإسلام المقرر في القرآن الحكيم والسنة السنية ، وتنزهه عن هذه البدع فاقتنعوا بأن ما قررناه لهم حق ، ولم يقتنعوا بأنه دين الإسلام الذي عليه المسلمون ، وقد سبق أن نقلت عن رجل من فضلاء الإنجليز منهم أنه قال لي : إن كان الإسلام ما ذكرت فأنا مسلم ، وكان نعوم بك شقير المؤرخ السوري يقول لي : اكتب عقيدتك ، وأنا أمضي عليها بخطي أنها عقيدتي .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية