الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      هذا ومن باب الإشارة في الآيات : واعلموا أنما غنمتم من شيء إلى قوله سبحانه : والله شديد العقاب طبقه بعض العارفين على ما في الأنفس فقال : ( واعلموا ) أي : أيها القوى الروحانية ( أنما غنمتم من شيء ) من العلوم النافعة ( فأن لله خمسه ) وهي كلمة التوحيد التي هي الأساس الأعظم للدين ( وللرسول ) الخاص وهو القلب ( ولذي القربى ) الذي هو السر ( واليتامى ) من القوة النظرية والعملية ( والمساكين ) من القوى [ ص: 29 ] النفسانية ( وابن السبيل ) الذي هو النفس السالكة الداخلة في الغربة السائحة في منازل السلوك النائية عن مقرها الأصلي باعتبار التوحيد التفصيلي والأخماس الأربعة الباقية بعد هذا الخمس من الغنيمة تقسم على الجوارح والأركان والقوى الطبيعية إن كنتم آمنتم بالله تعالى الإيمان الحقيقي جمعا وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان وقت التفرقة بعد الجمع تفصيلا يوم التقى الجمعان من فريقي القوى الروحانية والنفسانية عند الرجوع إلى مشاهدة التفصيل في الجمع والله على كل شيء قدير فيتصرف فيه حسب مشيئته وحكمته إذ أنتم بالعدوة الدنيا أي : القريبة من مدينة العلم ومحل العقل الفرقاني وهم بالعدوة القصوى أي : البعيدة من الحق ( والركب ) أي : ركب القوى الطبيعية الممتارة ومن أسفل منكم معشر الفريقين ولو تواعدتم اللقاء للمحاربة من طريق العقل دون طريق الرياضة لاختلفتم في الميعاد لكون ذلك أصعب من خرط القتاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا قدرا محققا، فعل ذلك ليهلك من هلك عن بينة وهي النفس الملازمة للبدن الواجب الفناء ويحيا من حي عن بينة وهي الروح المجردة المتصلة بعالم القدس الذي هو معدن الحياة الحقيقية الدائم البقاء ، وبينة الأول تلك الملازمة وبينة الثاني ذلك التجرد والاتصال إذ يريكهم الله أيها القلب في منامك وهو وقت تعطل الحواس الظاهرة وهدوء القوى البدنية ( قليلا ) أي : قليل القدر ضعاف الحال ولو أراكهم كثيرا في حال غلبة صفات النفس لفشلتم ولتنازعتم في الأمر أمر كسرها وقهرها لانجذاب كل منكم إلى جهة ولكن الله سلم من الفشل والتنازع بتأييده وعصمته إنه عليم بذات الصدور أي بحقيقتها فيثبت علمه بما فيها من باب الأولى ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم وهم القوى النفسانية خرجوا من مقارهم وحدودهم ( بطرا ) فخرا وأشرا ورئاء الناس وإظهارا للجلادة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعضهم : حذر الله تعالى بهذه الآية أولياءه عن مشابهة أعدائه في رؤية غيره سبحانه ويصدون عن سبيل الله وهو التوحيد والمعرفة وإذ زين لهم الشيطان أي : شيطان الوهم ( أعمالهم ) في التغلب على مملكة القلب وقواه وقال لا غالب لكم اليوم من الناس أوهمهم تحقيق أمنيتهم بأن لا غالب لكم من ناس الحواس وكذا سائر القوى وإني جار لكم أمدكم وأقويكم وأمنعكم من ناس القوى الروحانية فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه لشعوره بحال القوى الروحانية وغلبتها لمناسبته إياها من حيثية إدراك المعاني وقال إني بريء منكم لأني لست من جنسكم إني أرى ما لا ترون من المعاني ووصول المدد إليهم من سماء الروح وملكوت عالم القدس إني أخاف الله سبحانه لشعور ببعض أنواره وقهره ، وذكر الواسطي بناء على أن المراد من الشيطان الظاهر ، أن اللعين ترك ذنب الوسوسة إذ ذاك لكن ترك الذنب إنما يكون حسنا إذا كان إجلالا وحياء من الله تعالى لا خوفا من البطش فقط وهو لم يخف إلا كذلك والله شديد العقاب إذ صفاته الذاتية والفعلية في غاية الكمال ا هـ بأدنى تغيير وزيادة .

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر أن الفائدة في مثل هذا التأويل تصوير طريق السلوك للتنشيط في الترقي والعروج ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا وهم الذين غلبت عليهم صفات النفس ( الملائكة ) أي : ملائكة القهر والعذاب يضربون وجوههم لإعراضهم عن عالم الأنوار ومزيد الكبر والعجب ( وأدبارهم ) لميلهم إلى عالم الطبيعة ومضاعف الشهوة والحرص ويقولون لهم ذوقوا عذاب الحريق وهو عذاب الحرمان وفوات المقصود ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم أي : حتى يفسدوا استعدادهم فلا تبقى لهم مناسبة للخير وحينئذ يغير سبحانه النعمة [ ص: 30 ] إلى النقمة لطلبهم إياها بلسان الاستعداد وإلا فالله تعالى أكرم من أن يسلب نعمة شخص مع بقاء استحقاقها فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      إن شر الدواب عند الله الذين كفروا لجهلهم بربهم وعصيانهم له دون سائر الدواب فهم لا يؤمنون لغلبة شقاوتهم ومزيد عتوهم وغيهم الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة من مرات المعاهدة لأن ذلك شنشنة فيهم مع مولاهم ، ألا ترى كيف نقضوا عهد التوحيد الذي أخذ منهم في منزل ألست بربكم ، وهم لا يتقون العار ولا النار وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة قال أبو علي الروزباري : القوة هي الثقة بالله تعالى ، وقال بعضهم : هي الرمي بسهام التوجه إلى الله تعالى عن قسي الخضوع والاستكانة هو الذي أيدك بنصره الذي لم يعهد مثله ( وبالمؤمنين ) بجذبها إليه تعالى وتخليصها مما يوجب العداوة والبغضاء ، أو لكشفه سبحانه لها عن حجب الغيب حتى تعارفوا فيه والأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم لصعوبة الأمر وكثافة الحجاب ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم والتأليف من آثار ذلك والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية