الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 258 ] وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن قوله تعالى { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } فسماه هنا كلام الله وقال في مكان آخر : { إنه لقول رسول كريم } فما معنى ذلك ؟ فإن طائفة ممن يقول بالعبارة يدعون أن هذا حجة لهم ثم يقولون : أنتم تعتقدون أن موسى - صلوات الله عليه - سمع كلام الله عز وجل حقيقة من الله من غير واسطة وتقولون : إن الذي تسمعونه كلام الله حقيقة وتسمعونه من وسائط بأصوات مختلفة فما الفرق بين هذا وهذا ؟ وتقولون : إن القرآن صفة لله تعالى وأن صفات الله تعالى قديمة ; فإن قلتم إن هذا نفس كلام الله تعالى فقد قلتم بالحلول وأنتم تكفرون الحلولية والاتحادية وإن قلتم : غير ذلك قلتم بمقالتنا ونحن نطلب منكم في ذلك جوابا نعتمد عليه إن شاء الله تعالى .

                التالي السابق


                فأجاب : الحمد لله رب العالمين . هذه الآية حق كما ذكر الله وليست [ ص: 259 ] إحدى الآيتين معارضة للأخرى بوجه من الوجوه ولا في واحدة منهما حجة لقول باطل وإن كان كل من الآيتين قد يحتج بها بعض الناس على قول باطل وذلك أن قوله : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } فيه دلالة على أنه يسمع كلام الله من التالي المبلغ وأن ما يقرؤه المسلمون هو كلام الله كما في حديث جابر في السنن : { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض نفسه على الناس في الموقف ويقول : ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي ؟ فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي } وفي حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه لما خرج على المشركين فقرأ عليهم : { الم } { غلبت الروم } { في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون } قالوا له هذا كلامك أم كلام صاحبك ؟ فقال : ليس بكلامي ولا بكلام صاحبي ; ولكنه كلام الله .

                وقد قال تعالى : { ذرني ومن خلقت وحيدا } { وجعلت له مالا ممدودا } { وبنين شهودا } { ومهدت له تمهيدا } { ثم يطمع أن أزيد } { كلا إنه كان لآياتنا عنيدا } { سأرهقه صعودا } { إنه فكر وقدر } { فقتل كيف قدر } { ثم قتل كيف قدر } { ثم نظر } { ثم عبس وبسر } { ثم أدبر واستكبر } { فقال إن هذا إلا سحر يؤثر } { إن هذا إلا قول البشر } " فمن قال : إن هذا القرآن قول البشر كان قوله مضاهيا لقول الوحيد الذي أصلاه الله سقر . ومن المعلوم لعامة العقلاء أن من بلغ كلام غيره كالمبلغ لقول [ ص: 260 ] النبي صلى الله عليه وسلم { إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى } إذا سمعه الناس من المبلغ قالوا : هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولو قال المبلغ هذا كلامي وقولي لكذبه الناس لعلمهم بأن الكلام كلام لمن قاله مبتدئا منشئا ; لا لمن أداه راويا مبلغا . فإذا كان مثل هذا معلوما في تبليغ كلام المخلوق فكيف لا يعقل في تبليغ كلام الخالق الذي هو أولى أن لا يجعل كلاما لغير الخالق جل وعلا .

                وقد أخبر تعالى بأنه منزل منه فقال : { والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق } وقال : { حم } { تنزيل من الرحمن الرحيم } { حم } { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } . فجبريل رسول الله من الملائكة جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من البشر والله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس وكلاهما مبلغ له كما قال : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } وقال : { إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا } { ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم } وهو مع هذا كلام الله ليس لجبريل ولا لمحمد فيه إلا التبليغ والأداء كما أن المعلمين له في هذا الزمان والتالين له في الصلاة أو خارج الصلاة ليس لهم فيه إلا ذلك لم يحدثوا شيئا من حروفه ولا معانيه قال الله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } إلى قوله : { وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون } { قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين } { ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين } .

                كان بعض المشركين يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم تعلمه من بعض الأعاجم الذين بمكة إما عبد ابن الحضرمي وإما غيره كما ذكر ذلك المفسرون فقال تعالى : { لسان الذي يلحدون إليه } أي يضيفون إليه التعليم لسان { أعجمي وهذا لسان عربي مبين } فكيف يتصور أن يعلمه أعجمي وهذا الكلام عربي ؟ وقد أخبر أنه نزله روح القدس من ربك بالحق فهذا بيان أن هذا القرآن العربي الذي تعلمه من غيره لم يكن هو المحدث لحروفه ونظمه ; إذ يمكن لو كان كذلك أن يكون تلقى من الأعجمي معانيه وألف هو حروفه وبيان أن هذا الذي تعلمه من غيره نزل به روح القدس من ربك بالحق يدل على أن القرآن جميعه منزل من الرب سبحانه وتعالى لم ينزل معناه دون حروفه .

                ومن المعلوم أن من بلغ كلام غيره كمن بلغ كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الناس أو أنشد شعر غيره كما لو أنشد منشد قول لبيد : [ ص: 262 ]

                ألا كل شيء ما خلا الله باطل

                أو قول عبد الله بن رواحة حيث قال :

                شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا
                وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا

                أو قوله :

                وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق معروف من الفجر ساطع
                يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
                أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا به موقنات أن ما قال واقع

                وهذا الشعر قاله منشئه لفظه ومعناه وهو كلامه لا كلام غيره بحركته وصوته ومعناه القائم بنفسه ثم إذا أنشده المنشد وبلغه عنه علم أنه شعر ذلك المنشئ وكلامه ونظمه وقوله مع أن هذا الثاني أنشده بحركة نفسه وصوت نفسه وقام بقلبه من المعنى نظير ما قام بقلب الأول وليس الصوت المسموع من المنشد هو الصوت المسموع من المنشئ والشعر شعر المنشئ لا شعر المنشد - والمحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 263 ] إذا روى قوله : { إنما الأعمال بالنيات } بلغه بحركته وصوته مع أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم به بحركته وصوته وليس صوت المبلغ صوت النبي صلى الله عليه وسلم ولا حركته كحركته والكلام كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا كلام المبلغ له عنه .

                فإذا كان هذا معلوما معقولا فكيف لا يعقل أن يكون ما يقرأ القارئ إذا قرأ { الحمد لله رب العالمين } { الرحمن الرحيم } { مالك يوم الدين } أن يقال هذا الكلام كلام البارئ وإن كان الصوت صوت القارئ . فمن ظن أن الأصوات المسموعة من القراء صوت الله فهو ضال مفتر مخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول قائل قولا لم يقله أحد من أئمة المسلمين ; بل قد أنكر الإمام أحمد وغيره على من قال : لفظي بالقرآن غير مخلوق وبدعوه كما جهموا من قال : لفظي بالقرآن مخلوق . وقالوا القرآن كلام الله غير مخلوق كيف تصرف فكيف من قال لفظي به قديم أو صوتي به قديم ؟ فابتداع هذا وضلاله أوضح . فمن قال إن لفظه بالقرآن غير مخلوق أو صوته أو فعله أو شيئا من ذلك فهو ضال مبتدع .

                وهؤلاء قد يحتجون بقوله { حتى يسمع كلام الله } ويقولون هذا كلام الله وكلام الله غير مخلوق فهذا غير مخلوق ونحن لا نسمع [ ص: 264 ] إلا صوت القارئ وهذا جهل منهم فإن سماع كلام الله بل وسماع كل كلام يكون تارة من المتكلم به بلا واسطة ويكون بواسطة الرسول المبلغ له قال تعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء } ومن قال : إن الله كلمنا بالقرآن كما كلم موسى بن عمران أو إنا نسمع كلامه كما سمعه موسى بن عمران فهو من أعظم الناس جهلا وضلالا . ولو قال قائل : إنا نسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم كما سمعه الصحابة منه لكان ضلاله واضحا فكيف من يقول أنا أسمع كلام الله منه كما سمعه موسى وإن كان الله كلم موسى تكليما بصوت سمعه موسى فليس صوت المخلوقين صوتا للخالق . وكذلك مناداته لعباده بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب وتكلمه بالوحي حتى يسمع أهل السموات والأرض صوته كجر السلسلة على الصفا وأمثال ذلك مما جاءت به النصوص والآثار كلها ليس فيها أن صفة المخلوق هي صفة الخالق ; بل ولا مثلها بل فيها الدلالة على الفرق بين صفة الخالق وبين صفة المخلوق فليس كلامه مثل كلامه ولا معناه مثل معناه ولا حرفه مثل حرفه ولا صوته مثل صوته كما أنه ليس علمه مثل علمه ولا قدرته مثل قدرته ولا سمعه مثل سمعه ولا بصره مثل بصره فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله .

                [ ص: 265 ] ولما استقر في فطر الخلق كلهم الفرق بين سماع الكلام من المتكلم به ابتداء وبين سماعه من المبلغ عنه كان ظهور هذا الفرق في سماع كلام الله من المبلغين عنه أوضح من أن يحتاج إلى الإطناب . وقد بين أئمة السنة والعلم - كالإمام أحمد والبخاري صاحب الصحيح في كتابه في خلق الأفعال وغيرهما من أئمة السنة - من الفرق بين صوت الله المسموع منه وصوت العباد بالقرآن وغيره ما لا يخالفهم فيه أحد من العلماء أهل العقل والدين .



                فصل وأما قوله تعالى { إنه لقول رسول كريم } فهذا قد ذكره في موضعين . فقال في الحاقة { إنه لقول رسول كريم } { وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون } { ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون } فالرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم وقال في التكوير : { إنه لقول رسول كريم } { ذي قوة عند ذي العرش مكين } { مطاع ثم أمين } { وما صاحبكم بمجنون } { ولقد رآه بالأفق المبين } فالرسول هنا جبريل فأضافه إلى الرسول من البشر تارة وإلى الرسول من الملائكة تارة باسم الرسول ولم يقل : إنه لقول ملك ولا نبي لأن لفظ الرسول يبين أنه مبلغ [ ص: 266 ] عن غيره لا منشئ له من عنده { ما على الرسول إلا البلاغ } فكان قوله : { إنه لقول رسول كريم } بمنزلة قوله لتبليغ رسول أو مبلغ من رسول كريم أو جاء به رسول كريم أو مسموع عن رسول كريم ; وليس معناه أنه أنشأه أو أحدثه أو أنشأ شيئا منه أو أحدثه رسول كريم إذ لو كان منشئا لم يكن رسولا فيما أنشأه وابتدأه وإنما يكون رسولا فيما بلغه وأداه ومعلوم أن الضمير عائد إلى القرآن مطلقا .

                و ( أيضا فلو كان أحد الرسولين أنشأ حروفه ونظمه امتنع أن يكون الرسول الآخر هو المنشئ المؤلف لها فبطل أن تكون إضافته إلى الرسول لأجل إحداث لفظه ونظمه . ولو جاز أن تكون الإضافة هنا لأجل إحداث الرسول له أو لشيء منه لجاز أن نقول إنه قول البشر وهذا قول الوحيد الذي أصلاه الله سقر .

                فإن قال قائل : فالوحيد جعل الجميع قول البشر ونحن نقول إن الكلام العربي قول البشر وأما معناه فهو كلام الله .

                فيقال لهم : هذا نصف قول الوحيد ثم هذا باطل من وجوه أخرى .

                وهو أن معاني هذا النظم معان متعددة متنوعة وأنتم تجعلون [ ص: 267 ] ذلك المعنى معنى واحدا هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار وتجعلون ذلك المعنى إذا عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإذا عبر عنه بالعبرانية كان توراة وإذا عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا وهذا مما يعلم بطلانه بالضرورة من العقل والدين ; فإن التوراة إذا عربناها لم يكن معناها معنى القرآن والقرآن إذا ترجمناه بالعبرانية لم يكن معناه معنى التوراة .

                و ( أيضا فإن معنى آية الكرسي ليس هو معنى آية الدين وإنما يشتركان في مسمى الكلام ومسمى كلام الله كما تشترك الأعيان في مسمى النوع فهذا الكلام وهذا الكلام وهذا الكلام كله يشترك في أنه كلام الله اشتراك الأشخاص في أنواعها كما أن الإنسان وهذا الإنسان وهذا الإنسان يشتركون في مسمى الإنسان وليس في الخارج شخص بعينه هو هذا وهذا وهذا وكذلك ليس في الخارج كلام واحد هو معنى التوراة والإنجيل والقرآن وهو معنى آية الدين وآية الكرسي .

                ومن خالف هذا كان في مخالفته لصريح المعقول من جنس من قال : إن أصوات العباد وأفعالهم قديمة أزلية . فاضرب بكلام البدعتين رأس قائلهما وألزم الصراط المستقيم : صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .

                [ ص: 268 ] وبسبب هاتين البدعتين الحمقاوين ثارت الفتن وعظمت الإحن وإن كان كل من أصحاب القولين قد يفسرونهما بما قد يلتبس على كثير من الناس كما فسر من قال : إن الصوت المسموع من العبد أو بعضه قديم : أن القديم ظهر في المحدث من غير حلول فيه .

                وأما " أفعال العباد " فرأيت بعض المتأخرين يزعم أنها قديمة خيرها وشرها وفسر ذلك بأن الشرع قديم والقدر قديم وهي مشروعة مقدرة ولم يفرق بين الشرع الذي هو كلام الله والمشروع الذي هو المأمور به والمنهي عنه ولم يفرق بين القدر الذي هو علم الله وكلامه وبين المقدور الذي هو مخلوقاته . والعقلاء كلهم يعلمون بالاضطرار أن الأمر والخبر نوعان للكلام لفظه ومعناه ليس الأمر والخبر صفات لموصوف واحد - فمن جعل الأمر والنهي والخبر صفات للكلام لا أنواعا له فقد خالف ضرورة العقل ; وهؤلاء في هذا بمنزلة من زعم أن الوجود واحد ; إذ لم يفرق بين الواحد بالنوع والواحد بالعين ; فإن انقسام " الموجود " إلى القديم والمحدث والواجب والممكن والخالق والمخلوق والقائم بنفسه والقائم بغيره كانقسام " الكلام " إلى الأمر والخبر أو إلى الإنشاء والإخبار أو إلى الأمر والنهي والخبر - فمن قال الكلام معنى واحد هو الأمر والخبر فهو كمن قال الوجود واحد هو الخالق والمخلوق أو الواجب والممكن . وكما أن حقيقة هذا تئول إلى تعطيل الخالق فحقيقة [ ص: 269 ] هذا تئول إلى تعطيل كلامه وتكليمه .

                وهذا حقيقة قول فرعون الذي أنكر الخالق وتكليمه لموسى ; ولهذا آل الأمر بمحقق هؤلاء إلى تعظيم فرعون وتوليه وتصديقه في قوله : { أنا ربكم الأعلى } بل إلى تعظيمه على موسى وإلى الاستحقار بتكليم الله لموسى كما قد بسط في غير هذا الموضع .

                ( وأيضا فيقال : ما تقول في كلام كل متكلم إذا نقله عنه غيره - كما قد ينقل كلام النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والعلماء والشعراء وغيرهم ويسمع من الرواة أو المبلغين - إن ذلك المسموع من المبلغ بصوت المبلغ هو كلام المبلغ أو كلام المبلغ عنه ؟ فإن قال : كلام المبلغ لزم أن يكون القرآن كلاما لكل من سمع منه فيكون القرآن المسموع كلام ألف ألف قارئ لا كلام الله تعالى وأن يكون قوله : { إنما الأعمال بالنيات } ونظائره كلام كل من رواه لا كلام الرسول وحينئذ فلا فضيلة للقرآن في { إنه لقول رسول كريم } فإنه على قول هؤلاء قول كل منافق قرأه والقرآن يقرؤه المؤمن والمنافق كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها ; ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن [ ص: 270 ] مثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها } وعلى هذا التقدير فلا يكون القرآن قول بشر واحد بل قول ألف ألف بشر وأكثر من ذلك . وفساد هذا في العقل والدين واضح .

                وإن قال : كلام المبلغ عنه علم أن الرسول المبلغ للقرآن ليس القرآن كلامه ولكنه كلام الله ; ولكن لما كان الرسول الملك قد يقال إنه شيطان بين الله أنه تبليغ ملك كريم ; لا تبليغ شيطان رجيم ; ولهذا قال : { إنه لقول رسول كريم } { ذي قوة عند ذي العرش مكين } إلى قوله : { وما هو بقول شيطان رجيم } . وبين في هذه الآية أن الرسول البشري الذي صحبناه وسمعناه منه ليس بمجنون وما هو على الغيب بمتهم . وذكره باسم " الصاحب " لما في ذلك من النعمة به علينا إذ كنا لا نطيق أن نتلقى إلا عمن صحبناه وكان من جنسنا كما قال تعالى { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } وقال { ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون } كما قال في الآية الأخرى : { والنجم إذا هوى } { ما ضل صاحبكم وما غوى } وبين أن الرسول الذي من أنفسنا والرسول الملكي أنهما مبلغان فكان في هذا تحقيق أنه كلام الله .

                فلما كان الرسول البشري يقال : إنه مجنون أو مفتر نزهه عن هذا وهذا وكذلك في السورة الأخرى قال : { إنه لقول رسول كريم } { وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون } { ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون } { تنزيل من رب العالمين } وهذا مما يبين أنه أضافه إليه لأنه بلغه وأداه لا لأنه أحدثه وأنشأه فإنه قال : { وإنه لتنزيل رب العالمين } { نزل به الروح الأمين } فجمع بين قوله : { إنه لقول رسول كريم } وبين قوله : { وإنه لتنزيل رب العالمين } والضميران عائدان إلى واحد فلو كان الرسول أحدثه وأنشأه لم يكن تنزيلا من رب العالمين ; بل كان يكون تنزيلا من الرسول . ومن جعل الضمير في هذا عائدا إلى غير ما يعود إليه الضمير الآخر مع أنه ليس في الكلام ما يقتضي اختلاف الضميرين ومن قال إن هذا عبارة عن كلام الله - فقل له : هذا الذي تقرؤه أهو عبارة عن العبارة التي أحدثها الرسول الملك أو البشر على زعمك ؟ أم هو نفس تلك العبارة ؟ فإن جعلت هذا عبارة عن تلك العبارة جاز أن تكون عبارة جبريل أو الرسول عبارة عن عبارة الله وحينئذ فيبقى النزاع لفظيا ; فإنه متى قال إن محمدا سمعه من جبريل جميعه وجبريل سمعه من الله جميعه والمسلمون سمعوه من الرسول جميعه فقد قال الحق - وبعد هذا فقوله عبارة لأجل التفريق بين التبليغ والمبلغ عنه كما سنبينه .

                وإن قلت : ليس هذا عبارة عن تلك العبارة بل هو نفس تلك العبارة فقد جعلت ما يسمع من المبلغ هو بعينه ما يسمع من المبلغ [ ص: 272 ] عنه إذ جعلت هذه العبارة هي بعينها عبارة جبريل فحينئذ هذا يبطل أصل قولك .

                واعلم أن أصل القول بالعبارة " أن أبا محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب " هو أول من قال في الإسلام : إن معنى القرآن كلام الله . وحروفه ليست كلام الله فأخذ بنصف قول المعتزلة ونصف قول أهل السنة والجماعة وكان قد ذهب إلى إثبات الصفات لله تعالى وخالف المعتزلة في ذلك وأثبت العلو لله على العرش ومباينته المخلوقات وقرر ذلك تقريرا هو أكمل من تقرير أتباعه بعده . وكان الناس قد تكلموا فيمن بلغ كلام غيره هل يقال له حكاية عنه أم لا ؟ وأكثر المعتزلة قالوا : هو حكاية عنه فقال ابن كلاب : القرآن العربي حكاية عن كلام الله ; ليس بكلام الله .

                فجاء بعده " أبو الحسن الأشعري " فسلك مسلكه في إثبات أكثر الصفات وفي مسألة القرآن أيضا واستدرك عليه قوله إن هذا حكاية وقال : الحكاية إنما تكون مثل المحكي فهذا يناسب قول المعتزلة ; وإنما يناسب قولنا أن نقول هو عبارة عن كلام الله ; لأن الكلام ليس من جنس العبارة فأنكر أهل السنة والجماعة عليهم عدة أمور .

                [ ص: 273 ] ( أحدها قولهم : إن المعنى كلام الله وإن القرآن العربي ليس كلام الله وكانت المعتزلة تقول : هو كلام الله وهو مخلوق فقال : هؤلاء هو مخلوق وليس بكلام الله ; لأن من أصول أهل السنة أن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل فإذا قام الكلام بمحل كان هو المتكلم به كما أن العلم والقدرة إذا قاما بمحل كان هو العالم القادر وكذلك " الحركة " . وهذا مما احتجوا به على المعتزلة وغيرهم من الجهمية في قولهم : إن كلام الله مخلوق خلقه في بعض الأجسام - قالوا لهم لو كان كذلك لكان الكلام كلام ذلك الجسم الذي خلقه فيه فكانت الشجرة هي القائلة : { إني أنا الله رب العالمين } فقال أئمة الكلابية إذا كان القرآن العربي مخلوقا لم يكن كلام الله فقال طائفة من متأخريهم : بل نقول الكلام مقول بالاشتراك بين المعنى المجرد وبين الحروف المنظومة فقال لهم المحققون : فهذا يبطل أصل حجتكم على المعتزلة ; فإنكم إذا سلمتم أن ما هو كلام الله حقيقة لا يمكن قيامه به بل بغيره أمكن المعتزلة أن يقولوا ليس كلامه إلا ما خلقه في غيره .

                ( الثاني قولهم : إن ذلك المعنى هو الأمر والنهي والخبر وهو معنى التوراة والإنجيل والقرآن وقال أكثر العقلاء : هذا الذي قالوه معلوم الفساد بضرورة العقل .

                [ ص: 274 ] ( الثالث أن ما نزل به جبريل من المعنى واللفظ وما بلغه محمد لأمته من المعنى واللفظ ليس هو كلام الله .

                و " مسألة القرآن " لها طرفان ( أحدهما تكلم الله به وهو أعظم الطرفين ( والثاني تنزيله إلى خلقه والكلام في هذا سهل بعد تحقيق الأول . وقد بسطنا الكلام في ذلك في عدة مواضع وبينا مقالات أهل الأرض كلهم في هذه المسائل وما دخل في ذلك من الاشتباه ومأخذ كل طائفة ومعنى قول السلف : القرآن كلام الله غير مخلوق وأنهم قصدوا به إبطال قول من يقول : إن الله لم يقم بذاته كلام ; ولهذا قال الأئمة كلام الله من الله ليس ببائن عنه وذكرنا اختلاف المنتسبين إلى السنة هل يتعلق الكلام بمشيئته وقدرته أم لا ؟ وقول من قال من أئمة السنة لم يزل الله متكلما إذا شاء وأن قول السلف منه بدأ لم يريدوا به أنه فارق ذاته وحل في غيره ; فإن كلام المخلوق بل وسائر صفاته لا تفارقه وتنتقل إلى غيره فكيف يجوز أن يفارق ذات الله كلامه أو غيره من صفاته بل قالوا : منه بدأ أي : هو المتكلم به ردا على المعتزلة والجهمية وغيرهم الذين قالوا بدأ من المخلوق الذي خلق فيه . وقولهم : إليه يعود . أي : يسرى عليه فلا يبقى في المصاحف منه حرف ولا في الصدور منه آية .

                [ ص: 275 ] والمقصود هنا الجواب عن مسائل السائل .



                فصل وأما قول القائل : أنتم تعتقدون أن موسى سمع كلام الله منه حقيقة من غير واسطة وتقولون إن الذي تسمعونه كلام الله حقيقة وتسمعونه من وسائط بأصوات مختلفة فما الفرق بين ذلك ؟ فيقال له بين هذا وهذا من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق . فإن كل عاقل يفرق بين سماع كلام النبي صلى الله عليه وسلم منه بغير واسطة - كسماع الصحابة منه - وبين سماعه منه بواسطة المبلغين عنه كأبي هريرة وأبي سعيد وابن عمر وابن عباس وكل من السامعين سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة وكذلك من سمع شعر حسان بن ثابت أو عبد الله بن رواحة أو غيرهما من الشعراء منه بلا واسطة ومن سمعه من الرواة عنه يعلم الفرق بين هذا وهذا وهو في الموضعين شعر حسان لا شعر غيره والإنسان إذا تعلم شعر غيره فهو يعلم أن ذلك الشاعر أنشأ معانيه ونظم حروفه بأصواته المقطعة وإن كان المبلغ يرويه بحركة نفسه وأصوات نفسه .

                [ ص: 276 ] فإذا كان هذا الفرق معقولا في كلام المخلوقين بين سماع الكلام من المتكلم به ابتداء وسماعه بواسطة الراوي عنه أو المبلغ عنه فكيف لا يعقل ذلك في سماع كلام الله ؟ وقد تقدم أن من ظن أن المسموع من القراء هو صوت الرب فهو إلى تأديب المجانين أقرب منه إلى خطاب العقلاء وكذلك من توهم أن الصوت قديم أو أن المداد قديم فهذا لا يقوله ذو حس سليم ; بل ما بين لوحي المصحف كلام الله وكلام الله ثابت في مصاحف المسلمين لا كلام غيره فمن قال : إن الذي في المصحف ليس كلام الله بل كلام غيره فهو ملحد مارق .

                ومن زعم أن كلام الله فارق ذاته وانتقل إلى غيره كما كتب في المصاحف أو أن المداد قديم أزلي فهو أيضا ملحد مارق ; بل كلام المخلوقين يكتب في الأوراق وهو لم يفارق ذواتهم فكيف لا يعقل مثل هذا في كلام الله تعالى و " الشبهة " تنشأ في مثل هذا من جهة أن بعض الناس لا يفرق بين المطلق من الكلام والمقيد . مثال ذلك أن الإنسان يقول رأيت الشمس والقمر والهلال إذا رآه بغير واسطة " وهذه الرؤية المطلقة " وقد يراه في ماء أو مرآة فهذه " رؤية مقيدة " فإذا أطلق قوله رأيته أو ما رأيته حمل على مفهوم اللفظ المطلق وإذا قال : لقد رأيت الشمس في الماء والمرآة فهو كلام صحيح مع التقييد واللفظ يختلف معناه بالإطلاق [ ص: 277 ] والتقييد فإذا وصل بالكلام ما يغير معناه كالشرط والاستثناء ونحوهما من التخصيصات المتصلة كقوله : { ألف سنة إلا خمسين عاما } كان هذا المجموع دالا على تسعمائة وخمسين سنة بطريق الحقيقة عند جماهير الناس .

                ومن قال إن هذا مجاز فقد غلط ; فإن هذا المجموع لم يستعمل في غير موضعه وما يقترن باللفظ من القرائن اللفظية الموضوعة هي من تمام الكلام ; ولهذا لا يحتمل الكلام معها معنيين ولا يجوز نفي مفهومهما بخلاف استعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع مع أن قول القائل : هذا اللفظ حقيقة وهذا مجاز نزاع لفظي وهو مستند من أنكر المجاز في اللغة أو في القرآن ولم ينطق بهذا أحد من السلف والأئمة ولم يعرف لفظ المجاز في كلام أحد من الأئمة إلا في كلام الإمام أحمد فإنه قال فيما كتبه من " الرد على الزنادقة والجهمية " هذا من مجاز القرآن . وأول من قال ذلك مطلقا أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه الذي صنفه في " مجاز القرآن " ثم إن هذا كان معناه عند الأولين مما يجوز في اللغة ويسوغ فهو مشتق عندهم من الجواز كما يقول الفقهاء عقد لازم وجائز وكثير من المتأخرين جعله من الجواز الذي هو العبور من معنى الحقيقة إلى معنى المجاز ثم إنه لا ريب أن المجاز قد يشيع ويشتهر حتى يصير حقيقة .

                [ ص: 278 ] والمقصود أن القائل إذا قال : رأيت الشمس أو القمر أو الهلال أو غير ذلك في الماء والمرآة فالعقلاء متفقون على الفرق بين هذه الرؤية وبين رؤية ذلك بلا واسطة وإذا قال قائل : ما رأى ذلك ; بل رأى مثاله أو خياله أو رأى الشعاع المنعكس أو نحو ذلك لم يكن هذا مانعا لما يعلمه الناس ويقولونه من أنه رآه في الماء أو المرآة وهذه الرؤية في الماء أو المرآة حقيقة مقيدة وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم { من رآني في المنام فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي } هو كما قال صلى الله عليه وسلم رآه في المنام حقا فمن قال : ما رآه في المنام حقا فقد أخطأ ومن قال : إن رؤيته في اليقظة بلا واسطة كالرؤية بالواسطة المقيدة بالنوم فقد أخطأ ; ولهذا يكون لهذه تأويل وتعبير دون تلك .

                وكذلك ما سمعه منه من الكلام في المنام هو سماع منه في المنام وليس هذا كالسماع منه في اليقظة وقد يرى الرائي في المنام أشخاصا ويخاطبونه والمرئيون لا شعور لهم بذلك وإنما رأى مثالهم ولكن يقال : رآهم في المنام حقيقة فيحترز بذلك عن الرؤيا التي هي حديث النفس .

                فإن " الرؤيا ثلاثة أقسام " رؤيا بشرى من الله ورؤيا تحزين من الشيطان ورؤيا مما يحدث به المرء نفسه في اليقظة فيراه في المنام . وقد ثبت هذا التقسيم في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 279 ] ولكن الرؤيا يظهر لكل أحد من الفرق بينها وبين اليقظة ما لا يظهر في غيرها فكما أن الرؤية تكون مطلقة وتكون مقيدة بواسطة المرآة والماء أو غير ذلك حتى إن المرئي يختلف باختلاف المرآة فإذا كانت كبيرة مستديرة رأى كذلك وإن كانت صغيرة أو مستطيلة رأى كذلك فكذلك في " السماع " يفرق بين من سمع كلام غيره منه ومن سمعه بواسطة المبلغ ففي الموضعين المقصود سماع كلامه كما أن هناك في الموضعين يقصد رؤية نفس النبي ; لكن إذا كان بواسطة اختلف باختلاف الواسطة فيختلف باختلاف أصوات المبلغين كما يختلف المرئي باختلاف المرايا - قال تعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء } .

                فجعل " التكليم ثلاثة أنواع " الوحي المجرد والتكليم من وراء حجاب كما كلم موسى عليه السلام والتكليم بواسطة إرسال الرسول كما كلم الرسل بإرسال الملائكة وكما نبأنا الله من أخبار المنافقين بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم والمسلمون متفقون على أن الله أمرهم بما أمرهم به في القرآن ونهاهم عما نهاهم عنه في القرآن وأخبرهم بما أخبرهم به في القرآن فأمره ونهيه وإخباره بواسطة الرسول فهذا في تكليم مقيد بالإرسال وسماعنا لكلامه سماع مقيد بسماعه من المبلغ لا منه وهذا القرآن كلام الله مبلغا عنه مؤدى عنه وموسى سمع كلامه مسموعا منه لا مبلغا [ ص: 280 ] عنه ولا مؤدى عنه وإذا عرف هذا المعنى زاحت الشبهة .

                والنبي صلى الله عليه وسلم يروي عن ربه ويخبر عن ربه ويحكي عن ربه فهذا يذكر ما يذكره عن ربه من كلامه الذي قاله راويا حاكيا عنه . فلو قال من قال : إن القرآن " حكاية " : إن محمدا حكاه عن الله كما يقال بلغه عن الله وأداه عن الله لكان قد قصد معنى صحيحا ; لكن يقصدون - ما يقصده القائل بقوله فلان يحكي فلانا أي يفعل مثل فعله وهو - أنه يتكلم بمثل كلام الله فهذا باطل قال الله تعالى { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } .

                ونكتة الأمر أن العبرة بالحقيقة المقصودة لا بالوسائل المطلوبة لغيرها . فلما كان مقصود الرائي أن يرى الوجه مثلا فرآه في المرآة حصل مقصوده وقال رأيت الوجه وإن كان ذلك بواسطة انعكاس الشعاع في المرآة - وكذلك من كان مقصوده أن يسمع القول الذي قاله غيره الذي ألف ألفاظه وقصد معانيه فإذا سمعه منه أو من غيره حصل هذا المقصود وإن كان سماعه من غيره هو بواسطة صوت ذلك الغير الذي يختلف باختلاف الصائتين . والقلوب إنما تشير إلى المقصود لا إلى ما ظهر به المقصود كما في " الاسم والمسمى " فإن القائل إذا قال جاء زيد وذهب عمرو لم يكن مقصوده إلا الإخبار بالمجيء عن " المسمى " [ ص: 281 ] ولكن بذكر الاسم أظهر ذلك .

                فمن ظن أن الموصوف بالمجيء والإتيان هو لفظ زيد أو لفظ عمرو كان مبطلا فكذلك إذا قال القائل : هذا كلام الله وكلام الله غير مخلوق فالمقصود هنا الكلام نفسه من حيث هو هو وإن كان إنما ظهر وسمع بواسطة حركة التالي وصوته فمن ظن أن المشار إليه هو صوت القارئ وحركته كان مبطلا ; ولهذا لما قرأ أبو طالب المكي على الإمام أحمد رضي الله عنه { قل هو الله أحد } وسأله هل هذا كلام الله وهل هو مخلوق ؟ فأجابه بأنه كلام الله وأنه غير مخلوق فنقل عنه أبو طالب - خطأ منه - أنه قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فاستدعاه وغضب عليه وقال أنا قلت لك : لفظي بالقرآن غير مخلوق ؟ قال : لا ولكن قرأت عليك : { قل هو الله أحد } وقلت لك : هذا غير مخلوق فقلت : نعم قال فلم تحكي عني ما لم أقل ؟ لا تقل هذا ; فإن هذا لم يقله عالم - وقصته مشهورة حكاها عبد الله وصالح وحنبل والمروزي وفوران وبسطها الخلال في " كتاب السنة " وصنف المروزي في " مسألة اللفظ " مصنفا ذكر فيه أقوال الأئمة .

                وهذا الذي ذكره أحمد من أحسن الكلام وأدقه ; فإن الإشارة إذا أطلقت انصرفت إلى المقصود وهو كلام الله الذي تكلم به ; لا إلى [ ص: 282 ] ما وصل به إلينا من أفعال العباد وأصواتهم . فإذا قيل : لفظي جعل نفس الوسائط غير مخلوقة وهذا باطل كما أن من رأى وجها في مرآة فقال أكرم الله هذا الوجه وحياه أو قبحه كان دعاؤه على الوجه الموجود في الحقيقة الذي رأى بواسطة المرآة لا على الشعاع المنعكس فيها وكذلك إذا رأى القمر في الماء فقال : قد أبدر أو لم يبدر فإنما مقصوده القمر الذي في السماء لا خياله وكذلك من سمعه يذكر رجلا فقال هذا رجل صالح أو رجل فاسق علم أن المشار إليه هو الشخص المسمى بالاسم ; لا نفس الصوت المسموع من الناطق - فلو قال : هذا الصوت أو صوتي بفلان صالح أو فاسق فسد المعنى وكان بعضهم يقول : لفظي بالقرآن مخلوق فرأى في منامه وضارب يضربه وعليه فروة فأوجعه بالضرب فقال له : لا تضربني فقال : أنا ما أضربك وإنما أضرب الفروة فقال : إنما يقع الضرب علي فقال هكذا إذا قلت : لفظي بالقرآن مخلوق فالخلق إنما يقع على القرآن . يقول : كما أن المقصود بالضرب بدنك واللباس واسطة فهكذا المقصود بالتلاوة كلام الله وصوتك واسطة فإذا قلت : مخلوق وقع ذلك على المقصود كما إذا سمعت قائلا يذكر رجلا فقلت : أنا أحب هذا وأنا أبغض هذا انصرف الكلام إلى المسمى المقصود بالاسم لا إلى صوت الذاكر ; ولهذا قال الأئمة : القرآن كلام الله غير مخلوق كيفما [ ص: 283 ] تصرف ; بخلاف أفعال العباد وأصواتهم . فإنه من نفى عنها الخلق كان مبتدعا ضالا .



                فصل وأما قول القائل : تقولون إن القرآن صفة الله وإن صفات الله غير مخلوقة فإن قلتم إن هذا نفس كلام الله فقد قلتم بالحلول وأنتم تكفرون الحلولية والاتحادية وإن قلتم غير ذلك قلتم بمقالتنا .

                فمن تبين له ما نبهنا عليه سهل عليه الجواب عن هذا وأمثاله فإن منشأ الشبهة أن قول القائل : هذا كلام الله يجعل أحكامه واحدة سواء كان كلامه مسموعا منه أو كلامه مبلغا عنه .

                ومن هنا تختلف طوائف من الناس .

                " طائفة " قالت هذا كلام الله وهذا حروف وأصوات مخلوقة فكلام الله مخلوق .

                و " طائفة " قالت هذا مخلوق وكلام الله ليس بمخلوق فهذا ليس كلام الله .

                و " طائفة " قالت هذا كلام الله وكلام الله ليس بمخلوق وهذا ألفاظنا وتلاوتنا ; فألفاظنا وتلاوتنا غير مخلوقة .

                [ ص: 284 ] ومنشأ ضلال الجميع من عدم الفرق في المشار إليه في هذا . فأنت تقول هذا الكلام الذي تسمعه من قائله صدق وحق وصواب وهو كلام حكيم وكذلك إذا سمعته من ناقله تقول هذا الكلام صدق وحق وصواب وهو كلام حكيم فالمشار إليه في الموضعين واحد وتقول أيضا : إن هذا صوت حسن وهذا كلام من وسط القلب ثم إذا سمعته من الناقل تقول : هذا صوت حسن أو كلام من وسط القلب فالمشار إليه هنا ليس هو المشار إليه هناك بل أشار إلى ما يختص به هذا من صوته وقلبه وإلى ما يختص به هذا من صوته وقلبه وإذا كتب الكلام في صفحتين كالمصحفين تقول في كل منهما هذا قرآن كريم وهذا كتاب مجيد وهذا كلام الله فالمشار إليه واحد ثم تقول هذا خط حسن وهذا قلم النسخ أو الثلث وهذا الخط أحمر أو أصفر والمشار إليه هنا ما يختص به كل من المصحفين عن الآخر .

                فإذا ميز الإنسان في المشار إليه بهذا وهذا تبين المتفق والمفترق وعلم أن من قال هذا القرآن كلام الله وكلام الله غير مخلوق أن المشار إليه الكلام من حيث هو مع قطع النظر عما به وصل إلينا من حركات العباد وأصواتهم ومن قال : هذا مخلوق وأشار به إلى مجرد صوت العبد وحركته لم يكن له في هذا حجة على أن القرآن نفسه حروفه ومعانيه الذي تعلم هذا القارئ من غيره وبلغه بحركته وصوته مخلوق من اعتقد ذلك فقد أخطأ وضل .

                [ ص: 285 ] ويقال لهذا : هذا الكلام الذي أشرت إليه كان موجودا قبل أن يخلق هذا القارئ فهب أن القارئ لم تخلق نفسه ولا وجدت لا أفعاله ولا أصواته فمن أين يلزم أن يكون الكلام نفسه الذي كان موجودا قبله يعدم بعدمه ويحدث بحدوثه ؟ فإشارته بالخلق إن كانت إلى ما يختص به هذا القارئ من أفعاله وأصواته فالقرآن غني عن هذا القارئ وموجود قبله فلا يلزم من عدم هذا عدمه وإن كانت إلى الكلام الذي يتعلمه الناس بعضهم من بعض فهذا هو الكلام المنزل من الله الذي جاء به جبريل إلى محمد وبلغه محمد لأمته وهو كلام الله الذي تكلم به فذاك يمتنع أن يكون مخلوقا فإنه لو كان مخلوقا لكان كلاما لمحله الذي خلق فيه ولم يكن كلاما لله ولأنه لو كان سبحانه إذا خلق كلاما كان كلامه كان ما أنطق به كل ناطق كلامه مثل تسبيح الجبال والحصى وشهادة الجلود بل كل كلام في الوجود وهذا قول الحلولية الذين يقولون :

                وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه

                ومن قال : القرآن مخلوق فهو بين أمرين - إما أن يجعل كل كلام في الوجود كلامه وبين أن يجعله غير متكلم بشيء أصلا فيجعل العباد المتكلمين أكمل منه وشبهه بالأصنام والجمادات والموات : كالعجل الذي لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا فيكون قد فر عن إثبات [ ص: 286 ] صفات الكمال له حذرا في زعمه من التشبيه فوصفه بالنقص وشبهه بالجامد والموات .

                وكذلك قول القائل : هذا نفس كلام الله وعين كلام الله وهذا الذي في المصحف هو عين كلام الله ونفس كلام الله وأمثال هذه العبارات . هذه مفهومها عند الإطلاق في فطر المسلمين أنه كلامه لا كلام غيره وأنه لا زيادة فيه ولا نقصان ; فإن من ينقل كلام غيره ويكتبه في كتاب قد يزيد فيه وينقص كما جرت عادة الناس في كثير من مكاتبات الملوك وغيرها - فإذا جاء كتاب السلطان فقيل : هذا الذي فيه كلام السلطان بعينه بلا زيادة ولا نقص : يعني لم يزد فيه الكاتب ولا نقص . وكذلك من نقل كلام بعض الأئمة في مسألة من تصنيفه قيل : هذا الكلام كلام فلان بعينه : يعني لم يزد فيه ولم ينقص كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { : نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه كما سمعه } .

                فقوله فبلغه كما سمعه لم يرد به أنه يبلغه بحركاته وأصواته التي سمعه بها ولكن أراد أنه يأتي بالحديث على وجهه لا يزيد فيه ولا ينقص فيكون قد بلغه كما سمعه . فالمستمع له من المبلغ يسمعه كما قاله صلى الله عليه وسلم ويكون قد سمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قاله . وذلك معنى قولهم هذا كلامه بعينه وهذا نفس كلامه [ ص: 287 ] لا يريدون أن هذا هو صوته وحركاته وهذا لا يقوله عاقل ولا يخطر ببال عاقل ابتداء ولكن اتباع الظن وما تهوى الأنفس يلجئ أصحابه إلى " القرمطة " في السمعيات و " السفسطة " في العقليات .

                ولو ترك الناس على فطرتهم لكانت صحيحة سليمة فإذا رأى الناس كلاما صحيحا فإن من تكلم بكلام وسمع منه ونقل عنه أو كتبه في كتاب لا يقول عاقل إن نفس ما قام بالمتكلم من المعاني التي في قلبه والألفاظ القائمة بلسانه فارقته وانتقلت عنه إلى المستمع والمبلغ عنه ولا فارقته وحلت في الورق ; بل ولا يقول إن نفس ما قام به من المعاني والألفاظ هو نفس المداد الذي في الورق ; بل ولا يقول إن نفس ألفاظه التي هي أصواته هي أصوات المبلغ عنه فهذه الأمور كلها ظاهرة لا يقولها عاقل في كلام المخلوق إذا سمع وبلغ أو كتب في كتاب فكيف يقال ذلك في كلام الله الذي سمع منه وبلغ عنه أو كتبه سبحانه كما كتب التوراة لموسى وكما كتب القرآن في اللوح المحفوظ وكما كتبه المسلمون في مصاحفهم .

                وإذا كان من سمع كلام مخلوق فبلغه عنه بلفظه ومعناه ; بل شعر مخلوق كما يبلغ شعر حسان وابن رواحة ولبيد وأمثالهم من الشعراء ويقول الناس : هذا شعر حسان بعينه وهذا هو نفس شعر حسان . وهذا شعر لبيد بعينه كقوله : [ ص: 288 ]

                ألا كل شيء ما خلا الله باطل

                ومع هذا فيعلم كل عاقل أن رواة الشعر ومنشديه لم يسلبوا الشعراء نفس صفاتهم حتى حلت بهم بل ولا نفس ما قام بأولئك من صفاتهم وأفعالهم كأصواتهم وحركاتهم حلت بالرواة والمنشدين فكيف يتوهم متوهم أن صفات الباري كلامه أو غير كلامه فارق ذاته وحل في مخلوقاته وأن ما قام بالمخلوق من صفاته وأفعاله كحركاته وأصواته هي صفات الباري حلت فيه وهم لا يقولون مثل ذلك في المخلوق بل يمثلون العلم بنور السراج يقتبس منه المتعلم ولا ينقص ما عند العالم كما يقتبس المقتبس ضوء السراج فيحدث الله له ضوءا كما يقال : إن الهوى ينقلب نارا بمجاورة الفتيلة للمصباح من غير أن تتغير تلك النار التي في المصباح والمقرئ والمعلم يقرئ القرآن ويعلم العلم ولم ينقص مما عنده شيء ; بل يصير عند المتعلم مثل ما عنده .

                ولهذا يقال : فلان ينقل علم فلان وينقل كلامه ويقال : العلم الذي كان عند فلان صار إلى فلان وأمثال ذلك كما يقال : نقلت ما في الكتاب ونسخت ما في الكتاب أو نقلت الكتاب أو نسخته وهم لا يريدون أن نفس الحروف التي في الكتاب الأول عدمت منه وحلت في الثاني ; بل لما كان المقصود من نسخ الكتاب من الكتب ونقلها من جنس نقل العلم والكلام وذلك يحصل بأن يجعل في الثاني [ ص: 289 ] مثل ما في الأول فيبقى المقصود بالأول منقولا منسوخا وإن كان لم يتغير الأول بخلاف نقل الأجسام وتوابعها فإن ذلك إذا نقل من موضع إلى موضع زال عن الأول .

                وذلك لأن الأشياء لها وجود في أنفسها وهو وجودها العيني ولها ثبوتها في العلم ثم في اللفظ المطابق للعلم ثم في الخط . وهذا الذي يقال : وجود في الأعيان ووجود في الأذهان ووجود في اللسان ووجود في البنان : وجود عيني ووجود علمي ولفظي ورسمي ; ولهذا افتتح الله كتابه بقوله تعالى : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } { خلق الإنسان من علق } { اقرأ وربك الأكرم } { الذي علم بالقلم } { علم الإنسان ما لم يعلم } فذكر الخلق عموما وخصوصا ثم ذكر التعليم عموما وخصوصا فالخط يطابق اللفظ واللفظ يطابق العلم والعلم هو المطابق للمعلوم .

                ومن هنا غلط من غلط فظن أن القرآن في المصحف كالأعيان في الورق فظن أن قوله : { إنه لقرآن كريم } { في كتاب مكنون } كقوله : { الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل } فجعل إثبات القرآن الذي هو كلام الله في المصاحف كإثبات الرسول في المصاحف وهذا غلط : إثبات القرآن كإثبات اسم الرسول هذا كلام وهذا كلام وأما إثبات اسم الرسول فهذا كإثبات الأعمال أو كإثبات القرآن في [ ص: 290 ] زبر الأولين قال تعالى { وكل شيء فعلوه في الزبر } وقال تعالى : { وإنه لفي زبر الأولين } فثبوت الأعمال في الزبر وثبوت القرآن في زبر الأولين هو مثل كون الرسول مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ; ولهذا قيد سبحانه هذا بلفظ " الزبر " و " الكتب " زبر . يقال زبرت الكتاب إذا كتبته والزبور بمعنى المزبور أي المكتوب فالقرآن نفسه ليس عند بني إسرائيل ولكن ذكره كما أن محمدا نفسه ليس عندهم ولكن ذكره فثبوت الرسول في كتبهم كثبوت القرآن في كتبهم ; بخلاف ثبوت القرآن في اللوح المحفوظ وفي المصاحف ; فإن نفس القرآن أثبت فيها فمن جعل هذا مثل هذا كان ضلاله بينا وهذا مبسوط في موضعه .

                و ( المقصود هنا أن نفس الموجودات وصفاتها إذا انتقلت من محل إلى محل حلت في ذلك المحل الثاني وأما العلم بها والخبر عنها فيأخذه الثاني عن الأول مع بقائه في الأول وإن كان الذي عند الثاني هو نظير ذلك ومثله ; لكن لما كان المقصود بالعلمين واحدا في نفسه صارت وحدة المقصود توجب وحدة التابع له والدليل عليه ولم يكن للناس غرض في تعدد التابع كما في الاسم مع المسمى ; فإن اسم الشخص وإن ذكره أناس متعددون ودعا به أناس متعددون فالناس يقولون إنه اسم واحد لمسمى واحد فإذا قال المؤذن : أشهد أن لا إله إلا الله [ ص: 291 ] أشهد أن محمدا رسول الله وقال ذلك هذا المؤذن وهذا المؤذن وقاله غير المؤذن فالناس يقولون إن هذا المكتوب هو اسم الله واسم رسوله كما أن المسمى هو الله ورسوله .

                وإذا قال : { اقرأ باسم ربك } وقال : { اركبوا فيها بسم الله } وقال : { سبح اسم ربك الأعلى } وقال : { بسم الله } ففي الجميع المذكور هو اسم الله وإن تعدد الذكر والذاكر فالخبر الواحد من المخبر الواحد من مخبره والأمر الواحد بالمأمور به من الآمر الواحد بمنزلة الاسم الواحد لمسماه هذا في المركب نظير هذا في المفرد وهذا هو واحد باعتبار الحقيقة وباعتبار اتحاد المقصود وإن تعدد من يذكر ذلك الاسم والخبر وتعددت حركاتهم وأصواتهم وسائر صفاتهم .

                وأما قول القائل : إن قلتم : إن هذا نفس كلام الله فقد قلتم بالحلول وأنتم تكفرون الحلولية والاتحادية فهذا قياس فاسد . مثاله مثال رجل ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم يحل بذاته في بدن الذي يقرأ حديثه فأنكر الناس ذلك عليه وقالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحل في بدن غيره فقال : أنتم تقولون : إن المحدث يقرأ كلامه وإن ما يقرؤه هو كلام النبي صلى الله عليه وسلم فإذا قلتم ذلك فقد قلتم بالحلول ومعلوم أن هذا في غاية الفساد .

                [ ص: 292 ] والناس متفقون على إطلاق القول بأن كلام زيد في هذا الكتاب وهذا الذي سمعناه كلام زيد ولا يستجيز العاقل إطلاق القول بأنه هو نفسه في هذا المتكلم أو في هذا الورق . وقد نطقت النصوص بأن القرآن في الصدور كقول النبي صلى الله عليه وسلم { استذكروا القرآن فلهو أشد تفلتا من صدور الرجال من النعم في عقلها } وقوله : { الجوف الذي ليس فيه شيء من القرآن كالبيت الخرب } وأمثال ذلك وليس هذا عند عاقل مثل أن يقال الله في صدورنا وأجوافنا ولهذا لما ابتدع شخص يقال له الصوري بأن من قال القرآن في صدورنا فقد قال بقول النصارى فقيل لأحمد قد جاءت جهمية رابعة أي : جهمية الخلقية واللفظية والواقفية وهذه الرابعة - اشتد نكيره لذلك وقال هذا أعظم من الجهمية . وهو كما قال .

                فإن " الجهمية " ليس فيهم من ينكر أن يقال القرآن في الصدور ولا يشبه هذا بقول النصارى بالحلول إلا من هو في غاية الضلالة والجهالة ; فإن النصارى يقولون ; الأب والابن وروح القدس إله واحد وإن الكلمة التي هي اللاهوت تدرعت الناسوت وهو عندهم إله يخلق ويرزق ; ولهذا كانوا يقولون : إن الله هو المسيح ابن مريم ويقولون : المسيح ابن الله ; ولهذا كانوا متناقضين فإن الذي تدرع المسيح إن كان هو الإله الجامع للأقاليم فهو الأب نفسه وإن كان هو صفة من [ ص: 293 ] صفاته فالصفة لا تخلق ولا ترزق وليست إلها والمسيح عندهم إله ولو قال النصارى إن كلام الله في صدر المسيح كما هو في صدور سائر الأنبياء والمؤمنين لم يكن في قولهم ما ينكر .

                فالحلولية المشهورون بهذا الاسم من يقول بحلول الله في البشر كما قالت النصارى والغالية من الرافضة وغلاة أتباع المشايخ أو يقولون بحلوله في كل شيء كما قالت الجهمية إنه بذاته في كل مكان وهو سبحانه ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته وكذلك من قال باتحاده بالمسيح أو غيره أو قال باتحاده بالمخلوقات كلها أو قال : وجوده وجود المخلوقات أو نحو ذلك .

                فأما قول القائل : إن كلام الله في قلوب أنبيائه وعباده المؤمنين وإن الرسل بلغت كلام الله والذي بلغته هو كلام الله وإن الكلام في الصحيفة ونحو ذلك فهذا لا يسمى حلولا ومن سماه حلولا لم يكن بتسميته لذلك مبطلا للحقائق . وقد تقدم أن ذلك لا يقتضي مفارقة صفة المخلوق له وانتقالها إلى غيره فكيف صفة الخالق تبارك وتعالى ولكن لما كان فيه شبهة الحلول تنازع الناس في إثبات لفظ الحلول ونفيه عنه هل يقال : إن كلام الله حال في المصحف أو حال في الصدور ؟ وهل يقال : كلام الناس المكتوب حال في المصحف أو حال في قلوب حافظيه ونحو ذلك ؟ فمنهم طائفة نفت الحلول كالقاضي [ ص: 294 ] أبي يعلى وأمثاله وقالوا : ظهر كلام الله في ذلك ولا نقول : حل ; لأن حلول صفة الخالق في المخلوق أو حلول القديم في المحدث ممتنع . وطائفة أطلقت القول بأن كلام الله حال في المصحف كأبي إسماعيل الأنصاري الهروي - الملقب بشيخ الإسلام - وغيره وقالوا : ليس هذا هو الحلول المحذور الذي نفيناه . بل نطلق القول بأن الكلام في الصحيفة ولا يقال بأن الله في الصحيفة أو في صدر الإنسان كذلك نطلق القول بأن كلامه حال في ذلك دون حلول ذاته وطائفة ثالثة كأبي علي بن أبي موسى وغيره قالوا : لا نطلق الحلول نفيا ولا إثباتا لأن إثبات ذلك يوهم انتقال صفة الرب إلى المخلوقات ونفي ذلك يوهم نفي نزول القرآن إلى الخلق فنطلق ما أطلقته النصوص ونمسك عما في إطلاقه محذور لما في ذلك من الإجمال .

                وأما قول القائل إن قلتم [ إن هذا نفس كلام الله فقد قلتم بالحلول وإن قلتم غير ذلك ] قلتم بمقالتنا فجواب ذلك أن المقالة المنكرة هنا تتضمن ثلاثة أمور فإذا زالت لم يبق منكر .

                ( أحدها من يقول إن القرآن العربي لم يتكلم الله به وإنما أحدثه غير الله كجبريل ومحمد والله خلقه في غيره .

                ( الثاني قول من يقول إن كلام الله ليس إلا معنى واحدا هو [ ص: 295 ] الأمر والنهي والخبر وإن الكتب الإلهية تختلف باختلاف العبارات لا باختلاف المعاني فيجعل معنى التوراة والإنجيل والقرآن واحدا وكذلك معنى آية الدين وآية الكرسي كمن يقول إن معاني أسماء الله الحسنى بمعنى واحد فمعنى العليم والقدير والرحيم والحكيم معنى واحد فهذا إلحاد في أسمائه وصفاته وآياته .

                ( الثالث قول من يقول إن ما بلغته الرسل عن الله من المعنى والألفاظ ليس هو كلام الله وإن القرآن كلام التالين لا كلام رب العالمين . فهذه الأقوال الثلاثة باطلة بأي عبارة عبر عنها .

                وأما قول من قال : إن القرآن العربي كلام الله بلغه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه تارة يسمع من الله وتارة من رسله مبلغين عنه وهو كلام الله حيث تصرف وكلام الله تكلم به لم يخلقه في غيره ولا يكون كلام الله مخلوقا ولو قرأه الناس وكتبوه وسمعوه . وقال مع ذلك : إن أفعال العباد وأصواتهم وسائر صفاتهم مخلوقة فهذا لا ينكر عليه وإذا نفى الحلول وأراد به أن صفة الموصوف لا تفارقه وتنتقل إلى غيره فقد أصاب في هذا المعنى ; لكن عليه مع ذلك أن يؤمن أن القرآن العربي كلام الله تعالى وليس هو ولا شيء منه كلاما لغيره ولكن بلغته عنه رسله وإذا كان كلام المخلوق يبلغ عنه مع العلم بأنه كلامه حروفه ومعانيه ومع العلم بأن شيئا من صفاته لم تفارق ذاته فالعلم بمثل هذا في كلام الخالق أولى وأظهر والله أعلم .




                الخدمات العلمية