الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 100 ] ثم انتقل في هذه الآية إلى المطلوب منه جعل الإله لهم ، وهوعليه السلام ، والمطلوب لأجله هذا الجعل - وهو الله تعالى - وموسى على الحق ، والله تعالى هو الحق والذي يحق الحق ، وبين هذين الحقين وذينك الباطلين غاية المباينة ، فلذلك كان هذا جوابا مستقلا مباينا لما قبله ، بحيث لا ينبغي أن يعطف عليه عطفا ، ولا أن يعد معه عدا ، ولهذا أعاد فيه كلمة ( قال ) كما سنبينه ، وقد قدم فيه ذكر الأهم الأفضل المقصود بالذات من هذين الحقين ، فقال : أغير الله فغير الله أعم الألفاظ الدالة على المحدثات ، فهو يشمل أخس المخلوقات وأعجزها عن النفع والضر كالأصنام ، ويشمل أفضلها وأكملها كالملائكة والنبيين عليهم السلام ، ليثبت أنه لا يوجد مخلوق يستحق العبادة مع الله تعالى ، وإن علا قدره ، وعظم أمره ، وأن تجهيلهم بما طلبوا لا لأن المطلوب كالأصنام خسيس وباطل في نفسه ، وعرضة للتبار فلا فائدة فيه لغيره - لا لهذا فقط - بل لأن العبادة لا يصح أن تكون لغير الله تعالى ألبتة ، مهما يكن غيره مكرما عنده ، ومفضلا على كثير من خلقه ، على أن طلب عبادة الأخس دليل على منتهى الخسة والجهل ، إذ لا شبهة توهم قدرته على الإثابة أو التقريب من الله عز وجل ، كشبهة من عبدوا الملائكة وبعض النبيين والصالحين زاعمين أنهم بكرامتهم عند الله يقربون إليه من قصر به إيمانه وعمله أن يتقرب إليه بنفسه ، مع إصراره على خبثه ورجسه ، جاهلين بأن الله تعالى أمر المشركين والفاسقين أن يتوبوا ؛ أي : يرجعوا إليه لا إلى غيره من عباده المكرمين ، وأن يدعوه وحده كدعائهم مخلصين له الدين ، وأن يخصوه مثلهم بالعبادة والاستعانة ، وذلك ما فرضه علينا في صلاتنا بقوله : إياك نعبد وإياك نستعين ( 1 : 5 ) .

                          وبعد أن قدم المقصود بالذات من الإنكار ، وهو جعل غير الله إلها ذكر من أرادوا أن يكون الواسطة في هذا الجعل ، الذي دعا إليه ذلك الجهل ، وهو نفسه عليه السلام بقوله : أبغيكم إلها ليعلمهم أن طلب هذا الأمر الإمر والشيء الإد ، والمنكر الفظيع منه عليه السلام جهل بقيمته ، وبمعنى رسالته ، وبما رأوه من جهاده لفرعون وقومه ، من غير حول ولا قوة له في شخص أخيه ولا في شخصه ، بل بالاتكال على حول الله وقوته ، ولولا إرادة إنكار الأمرين معا : طلب إله مع الله ، وكونه بجعله عليه السلام - لقال : أغير الله تبغون إلها كقوله تعالى : أفغير دين الله يبغون ( 13 : 83 ) .

                          ثم أيد هذا الإنكار بما يعرفون من آيات الله تعالى فيهم ، وهو تفضيلهم على أهل زمانهم ، فقد كان أرقى الناس في ذلك العصر فرعون وقومه بما أوتوا من العلم والقوة والحضارة وسعة الملك ، ومن السيادة على بعض الشعوب ، وقد فضل الله بني إسرائيل عليهم برسالة موسى وهارون منهم ، وتجديد ملة إبراهيم فيهم ، وإيتائهما من الآيات [ ص: 101 ] ما تقدم بيانه ، وأثره في السياق الذي قبل هذا ، وقيل : إن المراد تفضيلهم على العالمين مطلقا بكثرة الأنبياء والمرسلين منهم ، والأول أظهر ؛ لأنه - عليه السلام - احتج عليهم بما عرفوا ، فيبعد أن يراد به تفضيلهم على القرون الأولى ، وأقوام رسلهم وعلى من سيأتي بعدهم ، وحال كل منهما مجهول عنده وعندهم ، فقد سأل فرعون موسى عن القرون الأولى فقال : علمها عند ربي ( 20 : 52 ) والقرون الآخرة بذلك أولى ، وأنت إذا قلت لغني أو عالم إنك أغنى أو أعلم الناس ، أو لملك : إنك أقوى الملوك ، أو في شعب إنه أرقى الشعوب - فإن أحدا لا يفهم من مثل هذا تفضيل من ذكر على غير أهل زمانهم ، ولا سيما من يأتي بعدهم ، وأهل الحضارة في زماننا يعتقدون أن الأجيال الآتية سيكونون خيرا من هذا الجيل ، وكان موسى يعلم أن هداية الدين سترتقي إلى أن تكمل برسالة خاتم النبيين ، ولكنه أوتي هذا العلم بما أوحاه الله إليه في التوراة ، ولم يكن نزل منها شيء عند طلب بني إسرائيل منه ما ذكر .

                          والدليل على أن المراد بتفضيلهم على العالمين ما ذكرنا أنه عطف عليه أعظم مظاهره الحديثة العهد بقوله : وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نسائكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم قرأ ابن عامر ( وإذ نجيناكم ) على أنه من مقول موسى - عليه السلام - قطعا والباقون ( أنجيناكم ) وذكروا فيه احتمالين : أحدهما وهو الأظهر والمتبادر أن يكون مسندا إلى الله - تعالى - متمما لكلام موسى ، ومبينا المراد منه على طريقة الالتفات عن الحكاية عنه ، ولهذا الالتفات نظائر في التنزيل وفي كلام بلغاء العرب ، ومنه قوله - تعالى - في قصة موسى من سورة طه : الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى ( 20 : 53 ) إلخ ، فأول الآية من قول موسى في جواب فرعون ، وقوله : ( فأخرجنا ) التفات عن الحكاية ، وانتقال إلى كلامه - تعالى - عن نفسه خاطب به من أنزل إليهم هذا الوحي من خلقه ، تنبيها لهم بتلوين الكلام ، وبما في مخاطبة الرب لهم كفاحا من التأثير الخاص إلى كونه هو المسدي لهذا الإنعام ، واقتصر بعض المفسرين على أن المخاطب بهذه القراءة من كان من بني إسرائيل في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأفادت قراءة ابن عامر أن موسى قالها لقومه في ذلك الوقت ، وأفادت قراءة الآخرين أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ذكر بها قوم موسى في زمنه كما تقدم في سورة البقرة ، وهذه فائدة الجمع بين القراءتين وهي من إعجاز إيجاز القرآن .

                          ( الثاني ) أن قراءة الالتفات من جملة الحكاية عن موسى - عليه الصلاة والسلام - أسند الإنجاء فيها إلى الله - تعالى - مع حذف القول للعلم به من القرينة أو بدونه أو إلى نفسه وحده أو مع أخيه ، للإشارة إلى جعله - تعالى - هذا الإنجاء بسبب رسالتهما وتأييده - تعالى - لهما بتلك الآيات .

                          [ ص: 102 ] والمعنى : واذكروا إذ أنجاكم الله - تعالى - بفضله ، أو إذ أنجيناكم بإرساله - تعالى - إيانا لأجل ذلك ، وبما أيدنا به من الآيات من آل فرعون ، حال كونهم يسومونكم سوء العذاب ، بجعلكم عبيدا مسخرين لخدمتهم كالبهائم فلا يعدونكم منهم ، وخص بالذكر من هذا العذاب شر أنواعه بقوله " يقتلون " ما يولد لكم من الذكور ، ويستبقون نساءكم بترك الإناث لكم لتزدادوا ضعفا بكثرتهن - وهذا بدل بعض من كل - وفي ذلكم العذاب والإنجاء منه بفضل الرب الواحد عليكم ، وتفضيله إياكم على أولئك الغالين في الأرض ، وعلى غيركم كسكان البلاد المقدسة التي سترثونها بلاء عظيم ؛ أي : اختبار لكم من ربكم المنفرد بتربيتكم ، وتدبير أموركم ليس وراءه بلاء واختبار ، فإن أجدر الناس بالاعتبار والاستفادة من أحداث الزمان من يعطى النعمة بعد النقمة ، وأحق الناس بمعرفة وحدانية الله - تعالى - وإخلاص العبادة له من يرى من آياته في نفسه ، وفي الآفاق ما يوقن به أنه لا يمكن أن يكون لغيره شركة فيه ؛ أي : فكيف تطلبون بعد هذا كله ممن رأيتم هذه الآيات على يده - وليس له فيها أقل تأثير - أن يجعل لكم إلها من أخس المخلوقات تجعلونه واسطة بينكم وبين الله - تعالى - ، وهو قد فضلكم عليها وعلى عابديها ومن هم أرقى منهم ؟ ! .

                          وقد غفل الشهاب الخفاجي عن كون تفضيلهم على العالمين لم يكن إلا بدعوة التوحيد المؤيدة بتلك الآيات ، فزعم أن الاحتجاج به خطابي ، لا برهان عقلي ، واعتذر عن عدم احتجاج موسى ببرهان التمانع بأنهم من العوام ، وهو لا ينكر أن تلك المعجزات من البراهين القطعية ، وإن اختلف المتكلمون في دلالتها ، هل هي عقلية أو وضعية ؟ وغفل أيضا عن كون برهان التمانع إنما يحتج به على المشركين في الربوبية دون العبادة فقط ، وقد تعقبه في هذا الآلوسي فقال : وفي إقامة برهان التمانع على الوثنيين القائلين : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ( 39 : 3 ) والمجيبين إذا سئلوا : من خلق السماوات والأرض ؟ يخلقهن الله خفاء ، والظاهر إقامته على الوثنية كما لا يخفى ا هـ .

                          ووجهه أن الوثنية يقولون بوجود ربين إلهين اشتركا في خلق العالم وتدبير أمره ، أحدهما رب النور والخير ، والثاني رب الظلمة والشر ، ويحتج عليهم بأنه لو كان في العالم خالقان مدبران أو أكثر ؛ لامتنع أن يوجد فيه نظام يصلح به أمره إذا فرض جواز وجوده ؛ لأن تعدد المدبرين لأمر الشيء كتعدد الخالقين يقتضي تعدد العلم والإرادة والقدرة التي يكون بها التدبير والخلق والتقدير ، وتعددها يقتضي التغاير والاختلاف فيها ، وإلا فلا تعدد ، وهذا الاختلاف يقتضي التعارض في متعلقاتها بأن يتعلق بعضها بغير ما تعلق به الآخر من ضد ونقيض ، وأي فساد في النظام ، وموجب للاختلال أشد من هذا ؟ وإنما قلنا : إذا جاز وجوده ؛ لأن الإشارة إلى البرهان في قوله - تعالى - : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ( 21 : 22 ) قد بني على أن السماوات [ ص: 103 ] والأرض موجودتان والنظام فيهما مشاهد بالأبصار والبصائر ، وكما يمتنع استقامة النظام وصلاح التدبير الصادر عن علوم وإرادات قدر مختلفة متعارضة ، كذلك يمتنع صدور الكون نفسه عنها بالأولى .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية