الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
فصل قال الزركشي في "البرهان": للاختلاف أسباب: أحدها: وقوع الخبر به على أحوال مختلفة وتطورات شتى، كقوله في خلق آدم مرة: من تراب آل عمران: 59 ، ومرة: من حمإ مسنون الحجر: 26 ، ومرة: من طين لازب الصافات: 11 ، ومرة -: من صلصال كالفخار . الرحمن: 14 ، فهذه ألفاظ مختلفة ومعانيها في أحوال مختلفة، لأن الصلصال غير الحمأ والحمأ غير التراب، إلا أن مرجعها كلها إلى جوهر وهو التراب، ومن التراب تدرجت هذه الأحوال. [ ص: 78 ] وكقوله: فإذا هي ثعبان ، في موضع. وفي موضع: تهتز كأنها جان ، والجان الصغير من الحيات، والثعبان الكبير منها، وذلك لأن خلقها خلق الثعبان العظيم، واهتزازها وحركتها وخفتها كاهتزاز الجان وحركته وخفته.

الثاني: لاختلاف الموضوع، كقوله: وقفوهم إنهم مسؤولون . وقوله: فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين . - مع قوله: فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان . قال الحليمي: فتحمل الآية الأولى على السؤال عن التوحيد وتصديق الرسل. والثانية على ما يستلزمه الإقرار بالنبوءات من شرائع الدين وفروعه. وحمله غيره على اختلاف الأماكن، لأن في القيامة مواقف كثيرة، ففي موضع: يسألون، وفي موضع آخر: لا يسألون. وقيل: إن السؤال المثبت سؤال تبكيت وتوبيخ والمنفي سؤال المعذرة وبيان الحجة. وكقوله: اتقوا الله حق تقاته ، مع قوله: فاتقوا الله ما استطعتم . قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي: الآية الأولى على التوحيد، بدليل قوله بعدها: ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون . والثانية على الأعمال. وقيل: بل الثانية ناسخة للأولى. وكقوله: فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة . مع قوله: ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم . فالأولى تفهم إمكان العدل، والثانية تنفيه. والجواب أن الأولى في توفية الحقوق. والثانية في الميل القلبي، وليس في قدرة البشر. وكقوله: إن الله لا يأمر بالفحشاء ، مع قوله: [ ص: 79 ] أمرنا مترفيها ففسقوا فيها . فالأولى في الأمر الشرعي، والثانية في الأمر الكوني بمعنى القضاء والتقدير.

الثالث: لاختلافهما في جهتي الفعل، كقوله: فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى . فأضاف الفعل إليهم والرمي إليه - صلى الله عليه وسلم - على جهة الكسب والمباشرة، ونفاه عنهم وعنه باعتبار التأثير.

الرابع: لاختلافهما في الحقيقة والمجاز، كقوله: وترى الناس سكارى وما هم بسكارى . أي سكارى من الأهوال مجازا، لا من الشراب حقيقة.

الخامس: بوجهين واعتبارين، كقوله: فبصرك اليوم حديد . مع قوله: خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي . قال قطرب: فبصرك اليوم، أي علمك ومعرفتك بها قوية. من قوله: بصر بكذا أي علم، وليس المراد رؤية العين. قال الفارسي: ويدل على ذلك قوله: فكشفنا عنك غطاءك . وكقوله: الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله . مع قوله: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم . فقد يظن أن الوجل خلاف الطمأنينة. وجوابه أن الطمأنينة تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد. والوجل يكون عند خوف الزيغ والذهاب عن الهدى فتوجل القلوب لذلك، وقد جمع بينهما في قوله: تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله . ومما استشكلوه قوله تعالى: وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا . [ ص: 80 ] فإنه يدل على حصر المانع من الإيمان في أحد هذين الشيئين. وقال في آية أخرى: وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا . فهذا حصر آخر في غيرهما. وأجاب ابن عبد السلام بأن معنى الآية: وما منع الناس أن يؤمنوا إلا إرادة أن تأتيهم سنة الأولين من الخسف أو غيره، أو يأتيهم العذاب قبلا في الآخرة. فأخبر أنه أراد أن يصيبهم أحد الأمرين. ولا شك أن إرادة الله مانعة من وقوع ما ينافي المراد، فهذا حصر في السبب الحقيقي، لأن الله هو المانع في الحقيقة. ومعنى الآية الثانية: وما منع الناس أن يؤمنوا إلا استغراب بعثه بشرا رسولا، لأن قولهم ليس مانعا من الإيمان، لأنه لا يصلح لذلك، وهو يدل على الاستغراب بالتزام، وهو المناسب للمانعية، واستغرابهم ليس مانعا حقيقيا، بل عاديا، لجواز وجود الإيمان معه بخلاف عادة الله، فهذا حصر في المانع العادي، والأول حصر في المانع الحقيقي، فلا تنافي ... انتهى. ومما استشكل قوله تعالى: ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا . ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه . ومن أظلم ممن منع مساجد الله . إلى غير ذلك من الآيات. ووجهه أن المراد هنا بالاستفهام النفي، والمعنى لا أحد أظلم، فيكون خبرا. وإذا كان خبرا وأخذت الآيات على ظاهرها أدى إلى التناقض. وأجيب بأوجه: منها تخصيص كل موضع بمعنى صلته، أي لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله. ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله. وكذا باقيها، وإذا تخصص بالصلات زال التناقض. ومنها: أن التخصيص بالنسبة إلى السبق لما لم يسبق أحد إلى مثله حكم عليهم بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم سالكا طريقهم، وهذا يؤول معناه إلى ما قبله، لأن المراد السبق إلى المانعية والافترائية. [ ص: 81 ] ومنها - وادعى أبو حيان أنه الصواب: أن نفي الأظلمية لا يستدعي نفي الظالمية، لأن نفي المقيد لا يدل على نفي المطلق، وإذا لم يدل على نفي الظالمية لم يلزم التناقض، لأن فيها إثبات التسمية في الأظلمية، ثم لم يكن أحد وصف بذلك يزيد على الآخر، لأنهم يتساوون في الأظلمية، وصار المعنى لا أحد أظلم ممن افترى، وممن منع ونحوها، ولا إشكال في تساوي هؤلاء في الأظلمية، ولا يدل على أن أحد هؤلاء أظلم من الآخر، كما إذا قلت لا أحد أفقه منهم ... انتهى.

وحاصل الجواب أن نفي التفضيل لا يلزم منه نفي المساواة. وقال بعض المتأخرين: هذا استفهام مقصود به التهويل والتفظيع من غير قصد إثبات الأظلمية للمذكور حقيقة، ولا نفيها عن غيره. وقال الخطابي: سمعت ابن أبي هريرة يحكي عن أبي العباس بن سريج، قال: سأل رجل بعض العلماء عن قوله: لا أقسم بهذا البلد . فأخبر أنه لا يقسم به، ثم أقسم به في قوله: وهذا البلد الأمين التين: 3 ، فقال: أيهما أحب إليك أجيبك ثم أقطعك، أو أقطعك ثم أجيبك، فقال: اقطعني ثم أجبني. فقال له: اعلم أن هذا القرآن نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحضرة رجال وبين ظهراني قوم، وكانوا أحرص الخلق على أن يجدوا فيه مغمزا وعليه مطعنا، فلو كان هذا عندهم مناقضة لتعلقوا به وأسرعوا بالرد عليه، ولكن القوم علموا وجهلت، فلم ينكروا منه ما أنكرت، ثم قال له: إن العرب قد تدخل لا في أثناء كلامها وتلغي معناها وأنشد فيه أبياتا. ومما استشكلوه أيضا قوله تعالى في سورة سبحان: وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوسا . وفي سورة فصلت: وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض . ومن لوازم الإياس نفي مطلق الدعاء، وأثبته في سورة فصلت. [ ص: 82 ] وقد رام بعض المتأخرين الجمع بينهما في تأليف بديع ، مقتضاه أن الدعاء العريض في أول الأمر والإياس في ثاني الحال.

تنبيه قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني، إذا تعارضت الآي وتعذر فيها الترتيب والجمع طلب التاريخ، وترك المتقدم بالمتأخر، ويكون ذلك نسخا. وإن لم يعمل، وكان الإجماع على العمل بإحدى الآيتين علم بإجماعهم أن الناسخ ما أجمعوا على العمل بها. قال: ولا يوجد في القرآن آيتان متعارضتان تخلوان عن هذين الوصفين. قال غيره: وتعارض القراءتين بمنزلة تعارض الآيتين، نحو: " وأرجلكم " ، بالنصب والجر، ولهذا جمع بينهما بحمل النصب على الغسل، والجر على مسح الخف. وقال الصيرفي: جماع الاختلاف والتناقض أن كل كلام صح أن يضاف بعض ما وقع الاسم عليه إلى وجه من الوجوه فليس فيه تناقض، وإنما التناقض في اللفظ ما ضاده من كل جهة، ولا يوجد في الكتاب والسنة شيء من ذلك أبدا، وإنما يوجد فيه النسخ في وقتين. وقال القاضي أبو بكر: لا يجوز تعارض آي القرآن والآثار. وما يوجبه العقل. فلذلك لم يجعل قوله: الله خالق كل شيء . معارضا لقوله: وتخلقون إفكا ، وإذ تخلق من الطين . لقيام الدليل العقلي أنه لا خالق له غير الله، فتعين تأويل ما عارضه. فيؤول تخلقون على تكذبون، وتخلق على تصور. وذكر الكرماني عند قوله تعالى: ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا . [ ص: 83 ] الاختلاف على وجهين: اختلاف تناقض، وهو ما يدعو فيه أحد الشيئين إلى خلاف الآخر، وهذا هو الممتنع على القرآن. واختلاف تلازم، وهو ما يوافق الجانبين، كاختلاف وجوه القراءات واختلاف مقادير السور والآيات، واختلاف الأحكام من الناسخ والمنسوخ، والأمر والنهي، والوعد والوعيد.

التالي السابق


الخدمات العلمية