الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية

        ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

        ولا يحل للرجل أن يكون عونا على ظلم فإن التعاون نوعان : [ ص: 70 ] الأول : تعاون على البر والتقوى ، من الجهاد وإقامة الحدود ، واستيفاء الحقوق وإعطاء المستحقين ، فهذا مما أمر الله به ورسوله ، ومن أمسك عنه خشية أن يكون من أعوان الظلمة ، فقد ترك فرضا على الأعيان ، أو على الكفاية متوهما أنه متورع ، وما أكثر ما يشتبه الجبن والفشل بالورع ، إذ كل منهما كف وإمساك .

        والثاني : تعاون على الإثم والعدوان ، كالإعانة على دم معصوم ، أو أخذ مال معصوم ، أو ضرب من لا يستحق الضرب ، ونحو ذلك ، فهذا الذي حرمه الله ورسوله .

        نعم إذا كانت الأموال قد أخذت بغير حق ، وقد تعذر ردها إلى أصحابها ، ككثير من الأموال السلطانية ، فالإعانة على صرف هذه الأموال في مصالح المسلمين كسداد الثغور ونفقة المقاتلة ونحو ذلك ، من الإعانة على البر والتقوى ، إذ الواجب على السلطان في هذه الأموال - إذا لم يمكن معرفة أصحابها ردها عليهم ، ولا على ورثتهم - أن يصرفها - مع التوبة ، إن كان هو الظالم - إلى مصالح المسلمين هذا هو قول جمهور العلماء ، كمالك ، وأبي حنيفة ، وأحمد ، وهو منقول عن غير واحد من الصحابة ، وعلى ذلك دلت الأدلة الشرعية ، كما هو منصوص في موضع آخر . [ ص: 71 ]

        وإن كان غيره قد أخذه ، فعليه هو أن يفعل بها ذلك ، وكذلك لو امتنع السلطان من ردها ، كانت الإعانة على إنفاقها في مصالح أصحابها ، أولى من تركها بيد من يضيعها على أصحابها ، وعلى المسلمين . فإن مدار الشريعة على قوله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } وهي مبينة لقوله : { اتقوا الله حق تقاته } ، وعلى قول النبي صلى الله عليه وسلم : { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } أخرجاه في الصحيحين .

        وعلى أن الواجب تحصيل المصالح وتكميلها ، وتبطيل المفاسد وتقليلها ، فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناها ، هو المشروع .

        والمعين على الإثم والعدوان ، من أعان الظالم على ظلمه ، أما من أعان المظلوم على تخفيف الظلم عنه ، أو على المظلمة ، فهو وكيل المظلوم ، لا وكيل الظالم ، بمنزلة الذي يقرضه ، أو الذي يتوكل في حمل المال له إلى الظالم ، مثال ذلك ولي اليتيم والوقف ، إذا طلب ظالم منه مالا فاجتهد في دفع ذلك بمال أقل منه إليه - أو إلى غيره بعد الاجتهاد التام في الدفع ، فهو محسن ، وما على المحسنين من سبيل .

        وكذلك وكيل المالك من المتأدبين والكتاب وغيرهم ، الذي توكل لهم في العقد والقبض ، ودفع ما يطلب منهم لا يتوكل للظالمين في الأخذ . [ ص: 72 ] كذلك لو وضعت مظلمة على أهل قرية أو درب أو سوق أو مدينة .

        فتوسط رجل محسن في الدفع عنهم بغاية الإمكان وقسطها بينهم على قدر طاقتهم ، من غير محاباة لنفسه ولا لغيره ، ولا ارتشاء توكل لهم في الدفع عنهم والإعطاء ، كان محسنا .

        لكن الغالب ، أن من يدخل في ذلك يكون وكيل الظالمين محابيا مرتشيا مخفرا لمن يريد ، وآخذا ممن يريد ، وهذا من أكبر الظلمة ، الذين يحشرون في توابيت من نار ، هم وأعوانهم وأشباههم ، ثم يقذفون النار .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية