الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        الشيء الذي لا يتيقن نجاسته ولا طهارته ، والغالب في مثله النجاسة ، فيه قولان ، لتعارض الأصل . والظاهر : أظهرهما : الطهارة ، عملا بالأصل ، فمن ذلك ثياب مدمني الخمر وأوانيهم ، وثياب القصابين ، والصبيان الذين لا يتوقون النجاسة وطين الشوارع حيث لا يستيقن ، ومقبرة شك في نبشها ، وأواني الكفار المتدينين باستعمال النجاسة كالمجوس ، وثياب المنهمكين في الخمر ، والتلوث بالخنزير من اليهود [ ص: 38 ] والنصارى - ولا يلحق بهؤلاء الذين لا يتدينون باستعمال النجاسة ، كاليهود والنصارى - فإن ألحقنا غلبة الظن باليقين ، واشتبه إناء طاهر بإناء الغالب في مثله النجاسة ، اجتهد فيهما . وإن رجحنا الأصل ; فهما طاهران ، وربما أطلق الأصحاب القولين فيما إذا غلب على الظن النجاسة ، لكن له شرط ، وهو أن تكون غلبة الظن مستندة إلى كون الغالب في مثله النجاسة . فإن لم يكن كذلك ، لم يلزم طرد القولين ، حتى لو رأى ظبيه تبول في ماء كثير وهو بعيد منه ، فجاءه ، فوجده متغيرا ، وشك ; هل تغير بالبول ، أم بغيره ؟ ، فهو نجس ، نص عليه الشافعي - رضي الله عنه - ، والأصحاب - رحمهم الله - .

                                                                                                                                                                        قلت : الجمهور حكموا بالنجاسة مطلقا ، وبعضهم قال : إن كان عهده عن قرب غير متغير ، فهو النجس . وإن لم يعهده أصلا ، أو طال عهده ، فهو طاهر ، لاحتمال التغير بطول المكث .

                                                                                                                                                                        واعلم أن الإمام الرافعي اختصر هذا الباب جدا ، وترك أكثر مسائله . وأنا إن شاء الله تعالى أشير إلى معظم ما تركه .

                                                                                                                                                                        قال أصحابنا : يجوز الاجتهاد في المشتبهين من الطعامين ، والدهنين ، ونحوهما ، في الجنس ، والجنسين ، كلبن وخل تنجس أحدهما ، وثوب وتراب ، وطعام وماء ، ولنا وجه منكر أنه لا يجوز في الجنسين . حكاه الشيخ أبو حامد وغلطه ، ولو اشتبه لبنان ومعه ثالث متيقن الطهارة ، إن لم يكن مضطرا إلى شربه ، جاز الاجتهاد فيهما ، وإن اضطر ، فعلى الوجهين في الماءين ومعه ثالث . ولو أخبره بنجاسة أحد المشتبهين بعينه من يقبل خبره ، عمل به ، ولم يجز الاجتهاد ، فإن كان معه إناءان ، فقال عدل : ولغ الكلب في هذا دون ذاك ، وقال آخر : في ذاك دون هذا ، حكم بنجاستهما ، لاحتمال الولوغ في وقتين ، فإن عينا وقتا بعينه ، عمل بقول أوثقهما عنده على المختار الذي قطع به إمام الحرمين . فإن استويا ، فالمذهب أنه يسقط خبرهما ، وتجوز الطهارة بهما ، وفيه طرق للأصحاب ، [ ص: 39 ] وتفريعات طويلة أوضحتها في شرحي ( المهذب ) و ( التنبيه ) ولو قال عدل : ولغ في هذا الإناء ، هذا الكلب في وقت كذا ، فقال آخر : كان هذا الكلب في ذلك الوقت ببلد آخر ، فالأصح طهارة الإناء ، للتعارض ، والثاني : النجاسة لاشتباه الكلاب . ولو أدخل الكلب رأسه في الإناء ، وأخرجه ولم يعلم ولوغه ، فإن كان فمه يابسا ، فالماء على طهارته ، وإن كان رطبا ، فالأصح : الطهارة للأصل . والثاني : النجاسة ، للظاهر . وإذا توضأ بالمظنون طهارته ، ثم تيقن أنه كان نجسا ، أو أخبره عدل ، لزمه إعادة الصلاة ، وغسل ما أصابه الماء من بدنه وثوبه . ويكفيه الغسلة الواحدة عن النجاسة والحدث جميعا إذا نوى الحدث ، على أصح الوجهين عند العراقيين ، وهو المختار ، خلاف ما جزم به الرافعي وجماعة من الخراسانيين : أنه لا بد من غسلتين . ولنا قول شاذ في ( الوسيط ) وغيره : أنه لا تجب إعادة هذه الصلاة ، كنظيره من القبلة . ولو توضأ بأحد المشتبهين من غير اجتهاد ، وصلى ، وقلنا بالصحيح : أنه لا يجوز ، فبان أن الذي توضأ به هو الطاهر ، لم تصح صلاته قطعا ، ولا وضوءه على الأصح ، لتلاعبه ، وكنظيره في القبلة والوقت . ولو اشتبه الإناءان على رجلين ، فظن كل واحد طهارة إناء باجتهاده ، لم يقتد أحدهما بالآخر . فلو كانت الآنية ثلاثة ، نجس وطاهران ، فاجتهد فيها ثلاثة رجال ، وتوضأ كل بإناء ، وأمهما واحد في الصبح ، وآخر في الظهر ، وآخر في العصر ، فثلاثة أوجه . [ ص: 40 ] الصحيح الأشهر : قول ابن الحداد : يصح لكل واحد التي أم فيها . والاقتداء الأول ، ويتعين الثاني للبطلان . والثاني : قول ابن القاص : لا يصح له إلا التي أم فيها . والثالث : قول أبي إسحاق المروزي : تصح التي أم فيها . والاقتداء الأول إن اقتصر عليه . فإن اقتدى ثانيا ، بطلا جميعا . وإن زادت الآنية والمجتهدون ، أو سمع من الرجال صوت حدث ، فتناكروه ، فحكم كله خارج على ما ذكرته ، وقد أوضحت كل هذا بأمثلته وأدلته في شرحي ( المهذب ) و ( التنبيه ) .

                                                                                                                                                                        وقد ذكر الرافعي - رحمه الله - المسألة في باب ( صفة الأئمة ) وهذا الموضع أنسب . ولو وجد قطعة لحم ملقاة ، فإن كان في البلد مجوس ومسلمون ، فنجسة ، فإن تمحض المسلمون ، فإن كانت في خرقة ، أو مكتل ، فطاهرة ، وإن كانت ملقاة مكشوفة ، فنجسة . ولو اشتبهت ميتة بمذكيات بلد ، أو إناء بول بأواني بلد ، فله أخذ بعضها بالاجتهاد بلا خلاف ، وإلى أي حد ينتهي ؟ فيه وجهان مذكوران في ( البحر ) أصحهما إلى أن يبقى واحد . والثاني : إلى أن يبقى قدر لو كان الاختلاط به ابتداء ، منع الجواز . ولو كان له دنان فيهما مائع ، فاغترف منهما في إناء ، فرأى فيه فأرة لا يدرى من أيهما هي ، تحرى ، فإن ظهر له أنها من أحدهما بعينه ، فإن كان اغترف بمغرفتين ، فالآخر طاهر ، وإن كان بمغرفة ، فإن ظهر بالاجتهاد أن الفأرة في الثاني ، فالأول على طهارته ، وإلا ، فهما نجسان . وقد أكثرت الزيادة في هذا الباب لمسيس الحاجة إليها ، فبقيت منه بقايا حذفتها كراهة كثرة الإطالة . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية