الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 107 ] القول في تأويل أسماء فاتحة الكتاب

قال أبو جعفر : صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما : -

134 - حدثني به يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : هي أم القرآن ، وهي فاتحة الكتاب ، وهي السبع المثاني .

فهذه أسماء فاتحة الكتاب .


وسميت "فاتحة الكتاب " ، لأنها يفتتح بكتابتها المصاحف ، ويقرأ بها في الصلوات ، فهي فواتح لما يتلوها من سور القرآن في الكتابة والقراءة .

وسميت "أم القرآن " لتقدمها على سائر سور القرآن غيرها ، وتأخر ما سواها خلفها في القراءة والكتابة . وذلك من معناها شبيه بمعنى فاتحة الكتاب . وإنما قيل لها - بكونها كذلك - أم القرآن ، لتسمية العرب كل جامع أمرا - أو مقدم لأمر إذا كانت له توابع تتبعه ، هو لها إمام جامع - "أما" . فتقول للجلدة التي تجمع الدماغ : "أم الرأس " . وتسمي لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها للجيش - "أما " . ومن ذلك قول ذي الرمة ، يصف راية معقودة على قناة يجتمع تحتها هو وصحبه : [ ص: 108 ]


وأسمر قوام إذا نام صحبتي خفيف الثياب لا تواري له أزرا     على رأسه أم لنا نقتدي بها ،
جماع أمور لا نعاصي لها أمرا     إذا نزلت قيل انزلوا وإذا غدت
غدت ذات برزيق ننال بها فخرا



يعني بقوله : "على رأسه أم لنا " ، أي على رأس الرمح راية يجتمعون لها في النزول والرحيل وعند لقاء العدو . وقد قيل إن مكة سميت "أم القرى " ، لتقدمها أمام جميعها ، وجمعها ما سواها . وقيل : إنما سميت بذلك ، لأن الأرض دحيت منها فصارت لجميعها أما . ومن ذلك قول حميد بن ثور الهلالي :


إذا كانت الخمسون أمك ، لم يكن     لدائك إلا أن تموت طبيب



لأن الخمسين جامعة ما دونها من العدد ، فسماها أما للذي قد بلغها . [ ص: 109 ]

وأما تأويل اسمها أنها "السبع " ، فإنها سبع آيات ، لا خلاف بين الجميع من القراء والعلماء في ذلك .

وإنما اختلفوا في الآي التي صارت بها سبع آيات . فقال عظم أهل الكوفة : صارت سبع آيات ب ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وروي ذلك عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين . وقال آخرون : هي سبع آيات ، وليس منهن ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ولكن السابعة " أنعمت عليهم " . وذلك قول عظم قرأة أهل المدينة ومتقنيهم .

قال أبو جعفر : وقد بينا الصواب من القول عندنا في ذلك في كتابنا : ( اللطيف في أحكام شرائع الإسلام ) بوجيز من القول ، ونستقصي بيان ذلك بحكاية أقوال المختلفين فيه من الصحابة والتابعين والمتقدمين والمتأخرين في كتابنا : ( الأكبر في أحكام شرائع الإسلام ) إن شاء الله ذلك .

وأما وصف النبي صلى الله عليه وسلم آياتها السبع بأنهن مثان ، فلأنها تثنى قراءتها في كل صلاة وتطوع ومكتوبة . وكذلك كان الحسن البصري يتأول ذلك .

135 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، قال سألت الحسن عن قوله : ( ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ) [ ص: 110 ] [ سورة الحجر : 87 ] قال : هي فاتحة الكتاب . ثم سئل عنها وأنا أسمع فقرأها : ( الحمد لله رب العالمين ) حتى أتى على آخرها ، فقال : تثنى في كل قراءة - أو قال - في كل صلاة . الشك من أبي جعفر الطبري .

والمعنى الذي قلنا في ذلك قصد أبو النجم العجلي بقوله :


الحمد لله الذي عافاني     وكل خير بعده أعطاني




من القرآن ومن المثاني



وكذلك قول الراجز الآخر :


نشدتكم بمنزل الفرقان     أم الكتاب السبع من مثاني
ثنين من آي من القرآن     والسبع سبع الطول الدواني



وليس في وجوب اسم "السبع المثاني " لفاتحة الكتاب ، ما يدفع صحة وجوب اسم "المثاني " للقرآن كله ، ولما ثنى المئين من السور . لأن لكل وجها ومعنى مفهوما ، لا يفسد - بتسميته بعض ذلك بالمثاني - تسمية غيره بها .

فأما وجه تسمية ما ثنى المئين من سور القرآن بالمثاني ، فقد بينا صحته ، وسندل على صحة وجه تسمية جميع القرآن به عند انتهائنا إليه في سورة الزمر ، إن شاء الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية