الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الفصل السادس عشر : في القول في عصمة الملائكة

          أجمع المسلمون على أن الملائكة مؤمنون فضلاء ، واتفق أئمة المسلمين أن حكم المرسلين منهم حكم النبيين سواء في العصمة مما ذكرنا عصمتهم منه ، وأنهم في حقوق الأنبياء ، والتبليغ إليهم كالأنبياء مع الأمم .

          واختلفوا في غير المرسلين منهم ، فذهبت طائفة إلى عصمة جميعهم عن المعاصي ، واحتجوا بقوله - تعالى - : لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [ التحريم : 6 ] . وبقوله : وما منا إلا له مقام معلوم وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون [ الصافات : 164 - 166 ] . وبقوله : ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون [ الأنبياء : 19 - 20 ] . وبقوله : إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته [ الأعراف : 206 ] الآية . وبقوله : كرام بررة [ عبس : 16 ] ، و لا يمسه إلا المطهرون [ الواقعة : 79 ] ، ونحوه من السمعيات .

          وذهبت طائفة إلى أن هذا خصوص للمرسلين منهم ، والمقربين . واحتجوا بأشياء ذكرها أهل الأخبار والتفاسير ، نحن نذكرها إن شاء الله بعد ونبين الوجه فيها إن شاء الله .

          والصواب عصمة جميعهم وتنزيه نصابهم الرفيع عن جميع ما يحط من رتبتهم ، ومنزلتهم عن جليل مقدارهم .

          ورأيت بعض شيوخنا أشار أن لا حاجة بالفقيه إلى الكلام في عصمتهم ، وأنا أقول : إن للكلام في ذلك ما للكلام في عصمة الأنبياء من الفوائد التي ذكرناها سوى فائدة الكلام في الأقوال والأفعال ، فهي ساقطة هاهنا .

          فمما احتج به من لم يوجب عصمة جميعهم قصة هاروت وماروت ، وما ذكر فيها أهل الأخبار ، ونقلة المفسرين ، وما روي عن علي ، وابن عباس في خبرهما [ ص: 510 ] وابتلائهما .

          فاعلم أكرمك الله أن هذه الأخبار لم يرو منها شيء لا سقيم ، ولا صحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وليس هو شيئا يؤخذ بقياس .

          والذي منه في القرآن اختلف المفسرون في معناه ، وأنكر ما قال بعضهم فيه كثير من السلف كما سنذكره . وهذه الأخبار من كتب اليهود ، وافترائهم ، كما نصه الله أول الآيات من افترائهم بذلك على سليمان وتكفيرهم إياه .

          وقد انطوت القصة على شنع عظيمة . وها نحن نخبر في ذلك ما يكشف غطاء هذه الإشكالات إن شاء الله :

          فاختلف أولا في هاروت وماروت ، هل هما ملكان أو إنسيان ؟ ، وهل هما المراد بالملكين أم لا ؟ ، وهل القراءة ملكين أو ملكين ؟ ، وهل ما في قوله : وما أنزل [ البقرة : 102 ] . وما يعلمان من أحد [ البقرة : 102 ] نافية أو موجبة ! .

          فأكثر المفسرين أن الله - تعالى - امتحن الناس بالملكين لتعليم السحر وتبيينه ، وأن عمله كفر ، فمن تعلمه كفر ، ومن تركه آمن . قال الله - تعالى - : إنما نحن فتنة فلا تكفر [ البقرة : 102 ] ، وتعليمهما الناس له تعليم إنذار ، أي يقولان لمن جاء يطلب تعلمه : لا تفعلوا كذا : فإنه يفرق بين المرء وزوجه ، ولا تتخيلوا بكذا ، فإنه سحر ، فلا تكفروا .

          فعلى هذا فعل الملكين طاعة ، وتصرفهما فيما أمرا به ليس بمعصية ، وهي لغيرهما فتنة .

          وروى ابن وهب ، عن خالد بن أبي عمران أنه ذكر عنده هاروت وماروت ، وأنهما يعلمان السحر ، فقال : نحن ننزههما عن هذا .

          فقرأ بعضهم : وما أنزل على الملكين [ البقرة : 102 ] . فقال خالد : لم ينزل عليهما .

          فهذا خالد على جلالته ، وعلمه نزههما عن تعليم السحر الذي قد ذكر غيره أنهما مأذون لهما في تعليمه بشريطة أن يبينا أنه كفر ، وأنه امتحان من الله ، وابتلاء ، فكيف لا ينزههما عن كبائر المعاصي والكفر المذكورة في تلك الأخبار .

          وقول خالد : لم ينزل : يريد أن ما نافية ، وهو قول ابن عباس ، قال مكي : وتقدير الكلام : وما كفر سليمان يريد بالسحر الذي افتعلته الشياطين ، فاتبعتهم في ذلك اليهود ، وما أنزل على الملكين ، قال مكي : هما جبريل وميكائيل :

          ادعى اليهود عليهما المجيء به ، كما ادعوا على سليمان فأكذبهم الله في ذلك .

          ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر [ البقرة : 102 ] ببابل هاروت وماروت قيل : هما رجلان تعلماه .

          قال الحسن : هاروت وماروت علجان من أهل بابل ، وقرأ : وما أنزل على الملكين [ البقرة : 102 ] بكسر اللام ، وتكون [ ما ] إيجابا على هذا .

          وكذلك قراءة عبد الرحمن بن أبزى بكسر اللام ، ولكنه قال : الملكان [ ص: 511 ] هنا داود وسليمان وتكون [ ما ] نفيا على ما تقدم .

          وقيل : كانا ملكين من بني إسرائيل ، فمسخهما الله ، حكاه السمرقندي .

          والقراءة بكسر اللام شاذة ، فمحمل الآية على تقدير أبي محمد مكي حسن ينزه الملائكة ، ويذهب الرجس عنهم ، ويطهرهم تطهيرا .

          وقد وصفهم الله بأنهم مطهرون ، وكرام بررة ، ولا يعصون الله ما أمرهم .

          ومما يذكرونه قصة إبليس ، وأنه كان من الملائكة ، ورئيسا فيهم ، ومن خزان الجنة . . . إلى آخر ما حكوه ، وأنه استثناه من الملائكة بقوله : فسجدوا إلا إبليس [ البقرة : 34 ]

          وهذا أيضا لم يتفق عليه ، بل الأكثر ينفون ذلك ، وأنه أبو الجن ، كما أن آدم أبو الإنس ، وهو قول الحسن ، وقتادة ، وابن زيد .

          وقال شهر بن حوشب : كان من الجن الذين طردتهم الملائكة في الأرض حين أفسدوا ، والاستثناء من غير الجنس شائع في كلام العرب سائغ ، وقد قال الله - تعالى - : ما لهم به من علم إلا اتباع الظن [ النساء : 157 ] .

          ومما رووه من الأخبار أن خلقا من الملائكة عصوا الله فحرقوا ، وأمروا أن يسجدوا لآدم فأبوا فحرقوا ، ثم آخرون كذلك ، حتى سجد له من ذكر الله إلا إبليس ، في أخبار لا أصل لها تردها صحاح الأخبار ، فلا يشتغل بها . والله أعلم .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية