الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأعظم المطالب العلم بالله تعالى، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأمره، ونهيه، وهذا كله لا تنال خصائصه لا بقياس الشمول ولا بقياس التمثيل، فإن الله تعالى لا مثل له فيقاس به، ولا يدخل هو [ ص: 323 ] وغيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها، فلهذا كانت طريقة القرآن - وهي طريقة السلف والأئمة - أنهم لا يستعملون في الإلهيات قياس تمثيل وقياس شمول تستوي أفراده، بل يستعملون من هذا وهذا قياس الأولى، فإن الله له المثل الأعلى، فإذا أدخل هو - سبحانه - وغيره تحت قضية كلية، مثل أن يقال: القائم بنفسه لا يفتقر إلى المحل كما يفتقر العرض مثلا، أو قيل: كل موجود فله خاصية لا يشركه فيها غيره ونحو ذلك - كان هو سبحانه أحق بمثل هذه الأمور من سائر الموجودات، فهو أحق بالغنى عن المحل من كل قائم بنفسه، وهو أحق بانتفاء المشارك له في خصائصه من كل موجود. وكذلك إذا قيس قياس تمثيل فكل كمال يستحقه موجود من جهة وجوده فالموجود الواجب أحق به، وكل نقص ينزه عنه موجود لكمال وجوده، فالموجود الواجب أحق بتنزيهه عنه، وهو أحق بانتفاء أحكام العدم وأنواعه وأشباهه وملزوماته عنه من كل موجود.

وإذا كان الأمر الوجودي كالرؤية مثلا لا يتعلق إلا بأمور موجودة لا يجوز أن تتعلق بمعدوم، لأن العدم لا يكون سببا للوجود، وكان كل [ ص: 324 ] ما كان أكمل وجودا كان أحق بأن يرى، كان الباري سبحانه بأن يرى [أحق] من كل موجود، وإذا كان تعذر الرؤية أحيانا قد يكون لضعف الأبصار، وكان في الموجودات القائمة بنفسها ما تتعذر أحيانا رؤيته لضعف أبصارنا في الدنيا، كان ضعفها في الدنيا عن رؤيته أولى وأولى.

وليس المقصود هنا الكلام على أعيان المسائل، ولكن المقصود بيان مسمى القياس، وأنه وإن كان قد يحصل به من العلوم أمور عظيمة، فإنه لا يحصل به كل مطلوب، ولا يطرد في كل شيء. فطرق العلم ثلاث: أحدها: الحس الباطن والظاهر، وهو الذي تعلم به الأمور الموجودة بأعيانها.

والثاني: الاعتبار بالنظر والقياس، وإنما يحصل العلم به بعد العلم بالحس، فما أفاده الحس معينا يفيده العقل والقياس كليا مطلقا، فهو لا يفيد بنفسه علم شيء معين، لكن يجعل الخاص عاما، والمعين مطلقا، فإن الكليات إنما تعلم بالعقل، كما أن المعينات إنما تعلم بالإحساس.

والثالث: الخبر، والخبر يتناول الكليات والمعينات والشاهد والغائب، فهو أعم وأشمل، لكن الحس والعيان أتم وأكمل. [ ص: 325 ]

وقد تنازع الناس في السمع والبصر أيهما أكمل؟ فذهبت طائفة منهم ابن قتيبة إلى أن السمع أكمل، لعموم ما يعلم به وشموله. وذهب الجمهور إلى أن البصر أكمل، فليس المخبر كالمعاين، وليس كل ما يعاين يمكن الإخبار عنه، وليس العلم الحاصل بالخبر كالعلم الحاصل بالعيان، وإن كان الخبر لا ريب في صدقه، لكن نفس المرئي المعاين لا يحصل العلم به قبل العيان كما يحصل عند العيان.

والتحقيق في هذا الباب أن العيان أتم وأكمل، والسماع أعم وأشمل، فيمكن أن يعلم بالسماع والخبر أضعاف ما يمكن علمه بالعيان والبصر أضعافا مضاعفة، ولهذا كان الغيب كله إنما يعلم بالسماع والخبر، ثم يصير المغيب شهادة، والمخبر عنه معاينا، وعلم اليقين عين اليقين.

والمقصود هنا أن الخبر أيضا لا يفيد إلا مع الحس أو العقل، فإن المخبر عنه، إن كان قد شوهد، كان قد علم بالحس، وإن لم يكن شوهد ما يشبهه من بعض الوجوه، وإلا لم يعلم بالخبر شيء، فلا يفيد الخبر إلا بعد الحس والعقل، فكما أن العقل بعد الحس، فالخبر بعد العقل والحس، فالإخبار يتضمن هذا [ ص: 326 ] وهذا، وكما أنه ليس كل ما علم بالخبر والسماع يمكن اعتباره بالقياس، إما لعدم النظير له من كل وجه، وإما لغير ذلك.

ثم إذا كان الخبر صادقا لا كذب فيه، أمن معه من الانتقاض والفساد، بخلاف القياس، فإن كثيرا مما يبنى فيه على قضايا كلية تكون منتقضة، وإن كان فيه ما ليس منتقضا.

والمقصود أنه ليس كل شيء يمكن علمه بالقياس، ولا كل شيء يحتاج فيه إلى القياس، فلهذا قال الأئمة: ليس في المنصوصات النبوية قياس.

وأما كونها لا تعارض بالأمثال المضروبة، فهذا الذي ذكرناه من أن المنصوص لا يعارضه دليل عقلي صحيح.

التالي السابق


الخدمات العلمية