الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما قوله: (وتكلموا في الروح، والقدر، والتعديل والتجوير، والعقل والنفس) فقد يظن أن الكلام في هذا مذموم مطلقا، وليس كذلك.

بل الكلام في ذلك وغيره بالحق النافع لا يذم، وإنما يذم الكلام الباطل، والكلام بلا علم، والكلام الحق لمن يعجز عن معرفته. كما قال ابن مسعود: ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم. وقال علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، [ ص: 331 ] ودعوا ما ينكرون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ وأما الكلام الحق النافع فهو محمود غير مذموم.

قال الخطابي: (ثم إن الكتاب والسنة لم يستوفيا [بيان] جميع ما يحتاج الناس إليه نصا وتسمية، فاحتجنا إلى انتزاع أحكام الحوادث في ضمن الأسماء والنصوص، من طريق المعاني والمعقول من النصوص، فاستنبطه العلماء وتكلموا فيه من طريق القياس، ولم يتجاوزوه إلى الكلام فيما لا أصل له من الكتاب والسنة، ولم يتعرضوا لما ورد الكتاب - ثم السنة - بالزجر عنه وعن الخوض فيه، وكان هذا موضع الفرق بين الكلامين) .

قال: (وقد أشار الشافعي إلى هذه الجملة، وأبان عنها بما زجر عنه من النظر في الكلام، وعابه من مذاهب المتكلمين. وبما زجر عنه [من التقليد وجب عليه من النظر والاستدلال، فعلمنا أن الذي زجر عنه] ليس هو الذي أمر به، وتبينا أن له في الأصول مذهبا ثالثا، ليس بالتقليد ولا بالتجريد لمذاهب المقتحمين في غمرات الكلام، والخائضين في أوديته، وإنما هو الاستدلال بمعقول أصول [ ص: 332 ] الدين، التي مرجعها إلى علوم الحس ومقدماتها، والنظر المتعلق بالأصول التي هي الكتاب والسنة الصحيحة التي ينقطع العذر بها) .

قال: (ونحن لم نعد فيما أوردنا من الكلام في كتاب "شعار الدين" هذه الجملة، وإن كان الذي عبناه في مسألة "الغنية عن الكلام" هو المذهب الآخر الذي تقدم ذكرنا له، وهو مذهب الغلو والإفراط، وما يقابله من مذاهب من يرى التقليد، ولا يقول بحجج العقول، فهو في التفريط والتقصير مواز لمذاهب المتكلمين في الغلو والإفراط. والطريقة المثلى هي القصد والاعتدال، وهو ما نختاره ونذهب إليه) .

قال: (وسبيل ما نأتيه ونذره من هذا الباب سبيل القياس، فإنا نستعمله في مواضع ونأباه في مواضع، فلا يكون ذلك منا مناقضة، وكذلك ما نطلقه من جواز الكلام في موضع، وكراهته في موضع آخر. والأصل في مذاهب الناس كلهم ثلاث مقالات: القول بالحس حسب، وهو مذهب الدهرية، فإنهم قالوا بما يدركه الحس، لم يقولوا بمعقول ولا خبر، وقال قوم بالحس والمعقول حسب، ولم يقولوا بالخبر، وهو مذهب الفلاسفة، لأنهم لا يثبتون [ ص: 333 ] النبوة. وقال أهل المقالة الثالثة بالحس والنظر الأثر، وهو جماعة المسلمين، وهو قول علمائنا وبه نقول) .

قلت: تفصيل مقالات الناس مبسوط في غير هذا الموضع، فإن الدهرية لا تنكر جنس المعقول، بل تنكر من المعقول ما لا يكون جنسه محسوسا. وهذا فيه كلام مبسوط في غير هذا الموضع، وإنما كفروا بإنكارهم الغيب الذي أخبرت به الرسل. والفلاسفة أيضا لا تنكر جنس الخبر، بل تقول بالأخبار المتواترة وغيرها. ولكن ينكرون استفادة الأمور الغائبة بأخبار الأنبياء، وهم قد يعظمون الأنبياء - صلوات الله عليهم - ويوجبون اتباع شرائعهم، ويأمرون بقتل من يخرج عنها، لكن يجعلون مقصودها هو إقامة مصالح الناس في دنياهم بالعدل الذي شرعته الأنبياء.

التالي السابق


الخدمات العلمية