الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وعلى هذا فكل من ملك أمة لا يعلم حالها قبل الملك ، هل اشتمل رحمها على حمل أم لا ؟ لم يطأها حتى يستبرئها بحيضة ، هذا أمر معقول ، وليس بتعبد محض لا معنى له ، فلا معنى لاستبراء العذراء والصغيرة التي لا يحمل مثلها ، والتي اشتراها من امرأته وهي في بيته لا تخرج أصلا ، ونحوها ممن يعلم براءة رحمها ، فكذلك إذا زنت المرأة وأرادت أن تتزوج ، استبرأها بحيضة ، ثم تزوجت ، وكذلك إذا زنت وهي مزوجة ، أمسك عنها زوجها حتى تحيض حيضة ، وكذلك أم الولد إذا مات عنها سيدها ، اعتدت بحيضة .

قال عبد الله بن أحمد : سألت أبي ، كم عدة أم الولد إذا توفي عنها مولاها أو أعتقها ؟ قال : عدتها حيضة ، وإنما هي أمة في كل أحوالها ، إن جنت ، فعلى سيدها قيمتها ، وإن جني عليها ، فعلى الجاني ما نقص من قيمتها . وإن ماتت ، فما تركت من شيء فلسيدها ، وإن أصابت حدا ، فحد أمة ، وإن زوجها سيدها فما ولدت فهم بمنزلتها يعتقون بعتقها ، ويرقون برقها .

وقد اختلف الناس في عدتها ، فقال بعض الناس : أربعة أشهر وعشرا ، فهذه عدة الحرة وهذه عدة أمة خرجت من الرق إلى الحرية ، فيلزم من قال : أربعة أشهر وعشرا أن يورثها ، وأن يجعل حكمها حكم الحرة ؛ لأنه قد أقامها في العدة مقام الحرة .

وقال بعض الناس : عدتها ثلاث حيض ، وهذا قول ليس له وجه ، إنما تعتد ثلاث حيض المطلقة ، وليست هي بمطلقة ولا حرة ، وإنما ذكر الله العدة فقال : ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) [ البقرة : 234 ] ، وليست أم الولد بحرة ولا زوجة ، فتعتد بأربعة أشهر وعشر . قال : ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) [ ص: 639 ] ، وإنما هي أمة خرجت من الرق إلى الحرية ، وهذا لفظ أحمد - رحمه الله - .

وكذلك قال في رواية صالح : تعتد أم الولد إذا توفي عنها مولاها ، أو أعتقها حيضة ، وإنما هي أمة في كل أحوالها .

وقال في رواية محمد بن العباس : عدة أم الولد أربعة أشهر وعشر إذا توفي عنها سيدها .

وقال الشيخ في ( المغني ) : وحكى أبو الخطاب رواية ثالثة عن أحمد : أنها تعتد بشهرين وخمسة أيام . قال : ولم أجد هذه الرواية عن أحمد - رحمه الله - في ( الجامع ) ولا أظنها صحيحة عن أحمد - رحمه الله - وروي ذلك عن عطاء وطاووس وقتادة ؛ لأنها حين الموت أمة فكانت عدتها عدة الأمة ، كما لو مات رجل عن زوجته الأمة ، فعتقت بعد موته ، فليست هذه رواية إسحاق بن منصور عن أحمد .

قال أبو بكر عبد العزيز في ( زاد المسافر ) : باب القول في عدة أم الولد من الطلاق والوفاة . قال أبو عبد الله في رواية ابن القاسم : إذا مات السيد وهي عند زوج ، فلا عدة عليها ، كيف تعتد وهي مع زوجها ؟ وقال في رواية مهنا : إذا أعتق أم الولد ، فلا يتزوج أختها حتى تخرج من عدتها . وقال في رواية إسحاق بن منصور : وعدة أم الولد عدة الأمة في الوفاة والطلاق والفرقة ، انتهى كلامه .

وحجة من قال : عدتها أربعة أشهر وعشر ، ما رواه أبو داود عن عمرو بن العاص ، أنه قال لا تفسدوا علينا سنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر . وهذا قول السعيدين ، [ ص: 640 ] ومحمد بن سيرين ، ومجاهد ، وعمر بن عبد العزيز ، وخلاس بن عمرو ، والزهري ، والأوزاعي ، وإسحاق . قالوا : لأنها حرة تعتد للوفاة ، فكانت عدتها أربعة أشهر وعشرا ، كالزوجة الحرة .

وقال عطاء ، والنخعي ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وأصحابه : تعتد بثلاث حيض ، وحكي عن علي ، وابن مسعود ، قالوا : لأنها لا بد لها من عدة ، وليست زوجة ، فتدخل في آية الأزواج المتوفى عنهن ، ولا أمة ، فتدخل في نصوص استبراء الإماء بحيضة ، فهي أشبه شيء بالمطلقة فتعتد بثلاثة أقراء .

والصواب من هذه الأقوال أنها تستبرأ بحيضة ، وهو قول عثمان بن عفان وعائشة ، وعبد الله بن عمر ، والحسن ، والشعبي ، والقاسم بن محمد ، وأبي قلابة ، ومكحول ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل في أشهر الروايات عنه ، وهو قول أبي عبيد ، وأبي ثور ، وابن المنذر ، فإن هذا إنما هو لمجرد الاستبراء لزوال الملك عن الرقبة فكان حيضة واحدة في حق من تحيض ، كسائر استبراءات المعتقات ، والمملوكات ، والمسبيات .

وأما حديث عمرو بن العاص ، فقال ابن المنذر : ضعف أحمد وأبو عبيد حديث عمرو بن العاص .

وقال محمد بن موسى : سألت أبا عبد الله عن حديث عمرو بن العاص ، فقال لا يصح . وقال الميموني : رأيت أبا عبد الله يعجب من حديث عمرو بن العاص هذا ، ثم قال : أين سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا ؟ وقال : ( أربعة أشهر وعشرا ) إنما هي عدة الحرة من النكاح ، وإنما هذه أمة خرجت من الرق إلى الحرية ، ويلزم من قال بهذا أن يورثها ، وليس لقول من قال : تعتد ثلاث حيض وجه إنما تعتد بذلك المطلقة . انتهى كلامه .

وقال المنذري : في إسناد حديث عمرو ، مطر بن طهمان أبو رجاء الوراق ، وقد ضعفه غير واحد ، وأخبرنا شيخنا أبو الحجاج الحافظ في كتاب ( التهذيب ) قال أبو طالب : سألت أحمد بن حنبل عن مطر الوراق . فقال : كان يحيى بن سعيد يضعف حديثه عن عطاء ، وقال عبد الله بن أحمد بن [ ص: 641 ] حنبل : سألت أبي عن مطر الوراق ، قال : كان يحيى بن سعيد يشبه حديث مطر الوراق بابن أبي ليلى في سوء الحفظ ، قال عبد الله : فسألت أبي عنه ؟ فقال ما أقربه من ابن أبي ليلى في عطاء خاصة ، وقال مطر في عطاء : ضعيف الحديث ، قال عبد الله : قلت ليحيى بن معين : مطر الوراق ؟ فقال : ضعيف في حديث عطاء بن أبي رباح ، وقال النسائي : ليس بالقوي . وبعد ، فهو ثقة ، قال أبو حاتم الرازي : صالح الحديث ، وذكره ابن حبان في كتاب الثقات ، واحتج به مسلم ، فلا وجه لضعف الحديث به .

وإنما علة الحديث أنه من رواية قبيصة بن ذؤيب ، عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - ولم يسمع منه ، قاله الدارقطني ، وله علة أخرى ، وهي أنه موقوف لم يقل : لا تلبسوا علينا سنة نبينا .

قال الدارقطني : والصواب : لا تلبسوا علينا ديننا . موقوف . وله علة أخرى ، وهي اضطراب الحديث ، واختلافه عن عمرو على ثلاثة أوجه :

أحدها : هذا .

والثاني : عدة أم الولد عدة الحرة .

والثالث : عدتها إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر ، فإذا أعتقت ، فعدتها ثلاث حيض ، والأقاويل الثلاثة عنه ذكرها البيهقي .

قال الإمام أحمد : هذا حديث منكر حكاه البيهقي عنه ، وقد روى خلاس ، عن علي مثل رواية قبيصة عن عمرو ، أن عدة أم الولد أربعة أشهر وعشر ، ولكن خلاس بن عمرو قد تكلم في حديثه ، فقال أيوب : لا يروى عنه ؛ فإنه صحفي ، وكان مغيرة لا يعبأ بحديثه .

وقال أحمد : روايته عن علي يقال : إنه كتاب ، وقال البيهقي : روايات خلاس عن علي ضعيفة عند أهل العلم بالحديث ، فقال : هي من صحيفة . ومع ذلك فقد روى مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر في أم الولد يتوفى عنها سيدها ، قال : تعتد بحيضة .

فإن ثبت عن [ ص: 642 ] علي وعمرو ما روي عنهما ، فهي مسألة نزاع بين الصحابة ، والدليل هو الحاكم ، وليس مع من جعلها أربعة أشهر وعشرا إلا التعلق بعموم المعنى ، إذ لم يكن معهم لفظ عام ، ولكن شرط عموم المعنى تساوي الأفراد في المعنى الذي ثبت الحكم لأجله ، فما لم يعلم ذلك لا يتحقق الإلحاق ، والذين ألحقوا أم الولد بالزوجة رأوا أن الشبه الذي بين أم الولد وبين الزوجة أقوى من الشبه الذي بينها وبين الأمة من جهة أنها بالموت صارت حرة ، فلزمتها العدة مع حريتها ، بخلاف الأمة ؛ ولأن المعنى الذي جعلت له عدة الزوجة أربعة أشهر وعشرا ، موجود في أم الولد ، وهو أدنى الأوقات الذي يتيقن فيها خلق الولد ، وهذا لا يفترق الحال فيه بين الزوجة وأم الولد ، والشريعة لا تفرق بين متماثلين ، ومنازعوهم يقولون : أم الولد أحكامها أحكام الإماء ، لا أحكام الزوجات ، ولهذا لم تدخل في قوله : ( ولكم نصف ما ترك أزواجكم ) [ النساء : 12 ] ، وغيرها . فكيف تدخل في قوله : ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا ) [ البقرة : 234 ] ؟ قالوا : والعدة لم تجعل أربعة أشهر وعشرا لأجل مجرد براءة الرحم ، فإنها تجب على من يتيقن براءة رحمها وتجب قبل الدخول والخلوة فهي من حريم عقد النكاح وتمامه .

وأما استبراء الأمة ، فالمقصود منه العلم ببراءة رحمها ، وهذا يكفي فيه حيضة ، ولهذا لم يجعل استبراؤها ثلاثة قروء ، كما جعلت عدة الحرة كذلك تطويلا لزمان الرجعة ، ونظرا للزوج ، وهذا المعنى مقصود في المستبرأة ، فلا نص يقتضي إلحاقها بالزوجات ولا معنى ، فأولى الأمور بها أن يشرع لها ما شرعه صاحب الشرع في المسبيات والمملوكات ، ولا تتعداه ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية