الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 129 ] ( 9 ) اختلف العلماء في رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه ليلة المعراج بين إثبات ونفي ووقف ، واختلف المثبتون في الرؤية هل هي بعين البصر أم بعين القلب والبصيرة ؟ كما اختلفوا في المعراج نفسه هل كان يقظة أم مناما ، أم مشاهدة روحية بين اليقظة والنوم ؟ لاختلاف الروايات عن الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - فيها ، ولما ورد في الأحاديث المتعارضة في المسألة عاما وخاصا . والتحقيق أنه قد وردت أحاديث مرفوعة صحيحة في النفي دون الإثبات كحديث " نور أنى أراه ؟ " المتقدم في النفي الخاص به - صلى الله عليه وسلم - وكحديث " واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا " رواه مسلم وكذا ابن خزيمة ، عن أبي أمامة وعبادة بن الصامت .

                          أما الصحابة ؛ فاشتهر الإثبات عن ابن عباس منهم ، وروي عن أنس أيضا ، وأخذ به بعض التابعين وقبله بعض المحدثين والمتكلمين الذين لا يدققون في تمحيص روايات الفضائل والمناقب . واشتهر المنع عن عائشة ، والرواية عنها فيه أصح وأصرح ، وتقدم ما رواه الشيخان عن مسروق عنها فيه ، وفي بعض رواياته أن مسروقا لما سألها هل رأى محمد ربه ؟ قالت له : لقد قف شعري مما قلت .

                          وروي النفي عن آخرين من الصحابة منهم ابن مسعود وأبو هريرة وغيرهما ، وأما المحدثون الذين عنوا بالتعادل والترجيح والجمع بين الروايات فمنهم من نظر فيها ؛ لإثبات ما سبق إلى اعتقاده ، ومالت إليه نفسه كالحافظ ابن خزيمة وتبعه النووي ، فرجحا رواية ابن عباس على رواية عائشة التي هي أصح سندا وأقوى دليلا ، بحجة أنها لم تنف الرؤية بحديث مرفوع ، ولو كان معها لذكرته ، وإنما اعتمدت على الاستنباط فتأولت آية لا تدركه الأبصار ( 6 : 103 ) وآية وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا ( 42 : 51 ) إلخ ، وقد غفلا عما لم يجهلا من حديثها في الصحيحين ، وقولها لمسروق لما احتج عليها بدلالة آية سورة النجم على رؤيته - صلى الله عليه وسلم - لربه إنها أول من سأله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية ، وتقدم لفظها في رواية الصحيحين ، وفيه رواية أخرى أصرح في المراد ، وهي ما أخرجه ابن مردويه بإسناد مسلم قالت : " أنا أول من سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذا ، فقلت : يا رسول الله هل رأيت ربك ؟ فقال : لا ؛ إنما رأيت جبريل منهبطا " إلخ .

                          ومنهم من نظر في الروايات لأجل التمحيص وتحقيق الحق فيها كشيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن حجر ، فبينا أن الروايات عن ابن عباس بعضها مطلق وبعضها مقيد بالرؤية القلبية لا البصرية ، فإذا حكمت فيها قاعدة حمل المطلق على المقيد زال التعارض بينها وبين حديث عائشة وما في معناه .

                          قال الحافظ في شرح البخاري : جاءت عن ابن عباس أخبار مطلقة وأخرى مقيدة ، فيجب حمل مطلقها على مقيدها ، فمن ذلك ما أخرجه النسائي بسند صحيح وصححه الحاكم .

                          [ ص: 130 ] من طريق عكرمة عنه " أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد ؟ " وأخرجه ابن خزيمة بلفظ " إن الله اصطفى إبراهيم بالخلة " إلخ . وأخرج ابن إسحاق من طريق عبد الله بن أبي سلمة أن ابن عمر أرسل إلى ابن عباس " هل رأى محمد ربه ؟ فأرسل إليه أن نعم " ( ومنها ) ما أخرجه مسلم من طريق أبي العالية عن ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله - تعالى - : ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى ( 53 : 11 - 13 ) قال : رأى ربه بفؤاده مرتين ، وله من طريق عطاء عنه قال : رآه بقلبه وأصرح منه ما أخرجه ابن مردويه عنه من طريق عطاء أيضا قال : لم يره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعينه إنما رآه بقلبه . انتهى ملخصا ، وقد روى الترمذي عن الشعبي أن ابن عباس - رضي الله عنه - سمع حديث قسمة الكلام والرؤية بين موسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم - من كعب الأحبار في عرفة ! ! .

                          فعلم مما تقدم أن ما روي عن ابن عباس من الإثبات هو الذي يصح فيه ما قيل خطأ في نفي عائشة : إنه استنباط منه ، ولم يكن عنده حديث مرفوع فيه ، وأنه على ما صح عنه من تقييده بالرؤية القلبية معارض مرجوح بما صح من تفسير النبي - صلى الله عليه وسلم - لآيتي سورة النجم ، وهو أنهما في رؤيته - صلى الله عليه وسلم - لجبريل بصورته التي خلقه الله عليها ، على أن رواية عكرمة عنه لا يبعد أن تكون مما سمعه من كعب الأحبار الذي قال فيه معاوية : " إن كنا لنبلو عليه الكذب " كما في صحيح البخاري ، ورواية ابن إسحاق لا يعتد بها في هذا المقام فإنه مدلس ، وهو ثقة في المغازي لا في الحديث ، فالإثبات المطلق عنه مرجوح رواية ، كما هو مرجوح دراية .

                          وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : إن ابن عباس - رضي الله عنه - لم يقل إنه - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه بعيني رأسه يقظة ، ومن حكى عنه ذلك فقد وهم ، وهذه نصوصه موجودة ليس فيها شيء من ذلك ، وقال : ما نقل عن الإمام أحمد من إثبات رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه إنما يعني رؤية المنام فإنه سئل عن ذلك فقال: نعم رآه ، فإن رؤيا الأنبياء حق . ولم يقل إنه رآه بعيني رأسه ، وقال بعد ذكر ما تقدم عن ابن عباس : ولفظ الإمام أحمد كلفظ ابن عباس ، وأهل السنة متفقون على أن الله - تعالى - لا يراه أحد بعينيه في الدنيا لا نبي ولا غيره ، ولم يقع النزاع إلا في نبينا - صلى الله عليه وسلم - خاصة مع أن الأحاديث المرفوعة ليس في شيء منها أنه رآه ، وإنما روي ذلك بإسناد موضوع باتفاق أهل الحديث . ا هـ .

                          [ ص: 131 ] فتوى المنار المشار إليها آنفا ( من ص282 م 19 )

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية