الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب في عدد قضاء رمضان قال الله تعالى : فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر فذكر بشر بن الوليد عن أبي يوسف ، وهشام عن محمد ، من غير خلاف من أحد من أصحابنا قالوا : " إذا صام أهل بلد تسعة وعشرين يوما للرؤية وفي البلد رجل مريض لم يصم فإنه يقضي تسعة وعشرين يوما ، فإن صام أهل بلد ثلاثين يوما للرؤية وصام أهل بلد تسعة وعشرين يوما للرؤية فعلم بذلك من صام تسعة وعشرين يوما ، فإن عليهم أن يقضوا يوما وعلى المريض المفطر قضاء ثلاثين يوما " وحكى بعض أصحاب مالك بن أنس عنه " أنه يقضي رمضان بالأهلة " .

وذكر عنه أشهب أنه سئل عمن مرض سنتين ثم مات عن غير قضاء : " أنه يطعم عنه ستين مسكينا لكل مسكين مدا " وقال الثوري فيمن مرض رمضان وكان تسعة وعشرين يوما : " إنه يصوم الذي كان عليه " وقال الحسن بن صالح : " إن مرض رجل شهر رمضان فأفطره من أوله إلى آخره ثم ابتدأ شهرا يقضيه فكان هذا الشهر الذي يقضي فيه تسعة وعشرين يوما أجزأه عن شهر رمضان الذي أفطر وإن كان ثلاثين يوما لأنه جزاء شهر بشهر ، وإن كان ابتداء القضاء على غير استقبال شهر أتم ثلاثين يوما .

وإن كان شهر رمضان تسعة وعشرين يوما ؛ لأن الشهر لا يكون تسعة وعشرين يوما إلا شهرا من أوله إلى آخره " قال أبو بكر : أما إذا كان الشهر تسعة وعشرين أو ثلاثين يوما ثم أراد المريض القضاء ، فإنه يقضيه بعدد أيام شهر الصوم الذي أفطر فيه سواء ابتدأ بالهلال أو من بعض [ ص: 274 ] الشهر ؛ وذلك لقوله عز وجل : فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ومعناه : فعدد من أيام أخر ؛ يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يعني العدد .

وإذا كان الله سبحانه قد أوجب عليه قضاء العدد من أيام أخر ، لم يجز الزيادة عليه ولا النقصان منه ، سواء كان الشهر الذي يقضيه ناقصا أو تاما ، فإن قيل : إن كان الذي أفطر فيه شهرا ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : الشهر تسعة وعشرون ؛ الشهر ثلاثون فأي شهر أتى به فقد قضى ما عليه لأنه شهر بشهر ، قيل له : لم يقل الله تعالى : فشهر من أيام أخر وإنما قال فعدة من أيام أخر فأوجب استيفاء عدد ما أفطر ، فوجب اتباع ظاهر الآية ولم يجز العدول عنها إلى معنى غير مذكور ، ويدل عليه أيضا قوله تعالى : ولتكملوا العدة يعني العدد ؛ فإذا كان الشهر الذي أفطر فيه ثلاثين فعليه إكمال عدده من غيره ، ولو اقتصر على شهر هو تسعة وعشرون لما كان مكملا للعدة ؛ فثبت بذلك بطلان قول من اعتبر شهرا بشهر وأسقط اعتبار العدد ، ويدل على ذلك اتفاق الجميع على أن إفطاره بعض رمضان يوجب قضاء ما أفطر بعدده ، كذلك يجب أن يكون حكم إفطار جميعه في اعتبار عدده .

وأما إذا صام أهل مصر للرؤية تسعة وعشرين يوما وأهل مصر آخر للرؤية ثلاثين يوما ، فإنما أوجب أصحابنا على الذين صاموا تسعة وعشرين يوما قضاء يوم ؛ لقوله تعالى : ولتكملوا العدة فأوجب إكمال عدة الشهر ؛ وقد ثبت برؤية أهل بلد أن العدة ثلاثون يوما ، فوجب على هؤلاء إكمالها ؛ لأن الله لم يخصص بإكمال العدة قوما دون قوم فهو عام في جميع المخاطبين ، ويحتج له بقوله تعالى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه وقد أريد بشهود الشهر العلم به ؛ لأن من لا يعلم به فليس عليه صومه ؛ فلما صح له العلم بأن الشهر ثلاثون يوما برؤية أهل البلد الذين رأوه وجب عليه صومه .

فإن قيل : إنما هو على من علم به في أوله ، قيل له : هو على من علم به في أوله وبعد انقضائه ، ألا ترى أن من كان في دار الحرب فلم يعلم بشهر رمضان ثم علم بمضيه أن عليه أن يقضيه ؟ فدل ذلك على أن الأمر قد تناول الجميع .

ويدل عليه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين ، والذين صاموا تسعة وعشرين قد غم عليهم رؤية أولئك ، فكان ذلك بمنزلة الحائل بينهم وبين الرؤية ، فوجب عليهم أن يعدوا ثلاثين

فإن قيل : قوله صلى الله عليه وسلم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته يوجب اعتبار رؤية كل قوم في بلدهم دون اعتبار رؤية غيرهم في سائر البلدان ، [ ص: 275 ] وكل قوم رأوا الهلال فالفرض عليهم العمل على رؤيتهم في الصيام والإفطار بقوله صلى الله عليه وسلم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته .

ويدل عليه اتفاق الجميع على أن على أهل كل بلد أن يصوموا لرؤيتهم وأن يفطروا لرؤيتهم ، وليس عليهم انتظار رؤية غيرهم من أهل سائر الآفاق ؛ فثبت بذلك أن كلا منهم مخاطب برؤية أهل بلده دون غيرهم ، قيل له : معلوم أن قوله صلى الله عليه وسلم : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته عام في أهل سائر الآفاق ، وأنه غير مخصوص بأهل بلد دون غيرهم .

وإذا كان كذلك فمن حيث وجب اعتبار رؤية أهل بلد في الصوم والإفطار وجب اعتبار رؤية غيرهم أيضا ، فإذا صاموا للرؤية تسعة وعشرين يوما وقد صام غيرهم أيضا للرؤية ثلاثين ، فعلى هؤلاء قضاء يوم لوجود الرؤية منهم بما يوجب صوم ثلاثين يوما ، وأما المحتج باتفاق الجميع على أن على كل أهل بلد من الآفاق اعتبار رؤيتهم دون انتظار رؤية غيرهم ، فإنما يوجب ذلك عندنا على شريطة أن لا تكون رؤية غيرهم مخالفة لرؤيتهم في حكم العدد ، فكلفوا في الحال ما أمكنهم اعتباره ولم يكلفوا ما لا سبيل لهم إليه في معرفته في ذلك الوقت ، فمتى يتبين لهم غيره عملوا عليه كما لو حال بينهم وبين منظره سحاب أو ضباب وشهد قوم من غيرهم أنهم قد رأوه قبل ذلك ، لزمهم العمل على ما أخبرهم به دون ما كان عندهم من الحكم بعدم الرؤية .

وقد روي في ذلك حديث يحتج به المخالف في هذه المقالة ، وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا إسماعيل بن جعفر قال : حدثني محمد بن أبي حرملة قال : أخبرنا كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام ، قال : فقدمت الشام فقضيت حاجتها ، فاستهل رمضان وأنا بالشام ، فرأينا الهلال ليلة الجمعة ، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني ابن عباس ثم ذكر الهلال فقال : متى رأيتم الهلال ؟ فقلت ليلة الجمعة ، فقال : أنت رأيته ؟ قلت : نعم ، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية ، فقال : لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصومه حتى نكمل الثلاثين أو نراه ، فقلت : أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه ؟ فقال : لا ، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا لا يدل على ما ذكر ؛ لأنه لم يحك جواب النبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن هذه بعينها فأجاب به ، وإنما قال : " هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم " ويشبه أن يكون تأول فيه قوله صلى الله عليه وسلم : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته على ما قالوا ؛ بل وجه دلالته على ما قلنا ظاهر على ما قدمنا فلم يصح الاحتجاج به فيما اختلفنا .

وقد ذكر عن الحسن البصري ما حدثنا [ ص: 276 ] محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبد الله بن معاذ قال : حدثني أبي قال : حدثني الأشعث عن الحسن في رجل كان بمصر من الأمصار فصام يوم الاثنين وشهد رجلان أنهما رأيا الهلال ليلة الأحد قال : " لا يقضي ذلك اليوم ذلك الرجل ولا أهل مصره ، إلا أن يعلموا أن أهل مصر من الأمصار قد صاموا يوم الأحد فيقضوه " ، وليس في هذا الخبر أنهم صاموا لرؤية أو لغيرها .

ومسألتنا هي في أهل بلدين صام كل واحد منهم لرؤية غير رؤية الآخرين ، وقد يحتج المخالف في ذلك بما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن عبيد قال : حدثنا حماد في حديث أيوب عن محمد بن المنكدر عن أبي هريرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيه قال : وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون ، وكل عرفة موقف وكل منى منحر وكل فجاج مكة منحر وكل جمع موقف وروى أبو خيثمة قال : حدثنا محمد بن الحسن المدني قال : حدثني عبد الله بن جعفر عن عثمان بن محمد عن المقبري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون ، قالوا : وهذا يوجب أن يكون صوم كل قوم يوم صاموا وفطرهم يوم أفطروا .

وهذا قد يجوز أن يريد به ما لم يتبين غيره ، ومع ذلك فلم يخصص به أهل بلد دون غيرهم ، فإن وجب أن يعتبر صوم من صام الأقل فيما لزمهم فهو موجب صوم من صام الأكثر ، فيكون ذلك صوما للجميع ويلزم من صام الأقل قضاء يوم ، وقد اختلف مع ذلك في صحة هذا الخبر من طريق النقل ، فثبته بعضهم ولم يثبته الآخرون .

وقد تكلم أيضا في معناه ، فقال قائلون : " معناه أن الجميع إذا اتفقوا على صوم يوم فهو صومهم ، وإذا اختلفوا احتاجوا إلى دلالة من غيره ؛ لأنه لم يقل صومكم يوم يصوم بعضكم وإنما قال صومكم يوم تصومون ، وذلك يقتضي صوم الجميع " وقال آخرون : " هذا خطاب لكل واحد في نفسه وإخبار بأنه متعبد بما عنده دون ما هو عند غيره ، فمن صام يوما على أنه من رمضان فقد أدى ما كلف وليس عليه مما عند غيره شيء ؛ لأن الله تعالى إنما كلفه بما عنده لا بما عند غيره ولم يكلفه المغيب عند الله أيضا " .

التالي السابق


الخدمات العلمية